تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

ثم قال تعالى : { وَكَأَيِّنْ{[20320]} مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي : كم من قرية أهلكتها { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } ] {[20321]} أي : مكذبة لرسولها ، { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } قال الضحاك : سقوفها ، أي : قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها .

{ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ } أي : لا يستقى منها ، ولا يَرِدُها أحد بعد كثرة وارديها والازدحام عليها .

{ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } قال عكرمة : يعني المُبَيّض بالجص .

وروي عن علي بن أبي طالب ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبي المَلِيح ، والضحاك ، نحو ذلك .

وقال آخرون : هو المُنيف المرتفع .

وقال آخرون : الشديد المنيع الحصين .

وكل هذه الأقوال متقاربة ، ولا منافاة بينها ، فإنه لم يَحْمِ أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ، ولا إحكامه ولا حصانته ، عن حلول بأس الله بهم ، كما قال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] .


[20320]:- في ت ، ف : "وكأين".
[20321]:- زيادة من ف ، أ.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

تفرع ذكر جملة { كأين من قرية } على جملة { فكيف كان نكير } [ الحج : 44 ] فعطفت عليها بفاء التفريع ، والتعقيب في الذكر لا في الوجود ، لأن الإملاء لكثير من القرى ثم أخذها بعد الإملاء لها يبين كيفيّة نكير الله وغضبه على القرى الظالمة ويفسره ، فناسب أن يذكر التفسير عقب المفسر بحرف التفريع ، ثم هو يفيد بما ذكر فيه من اسم كثرة العَدد شُمولاً للأقوام الذين ذُكروا من قبل في قوله : { فقد كذبت قبلهم قوم نوح } [ الحج : 42 ] إلى آخره فيكون لتلك الجملةِ بمنزلة التذييل .

و { كأيّن } اسم دال على الإخبار عن عدد كثير .

وموضعها من الجملة محل رفع بالابتداء وما بعده خبر . والتقدير : كثير من القرى أهلكناها ، وجملة { أهلكناها } الخبر .

ويجوز كونها في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف يفسره { أهلكناها } والتقدير : أهلكنا كثيراً من القرى أهلكناها ، والأحسن الوجه الأول لأنه يحقق الصدارة التي تستحقها ( كأيّن ) بدون حاجة إلى الاكتفاء بالصدارة الصورية ، وعلى الوجه الأول فجملة { أهلكناها } في محل جر صفة ل { قرية } . وجملة { فهي خاوية } معطوفة على جملة { أهلكناها ، } وقد تقدم نظيره في قوله { وكأين من نبي } في [ سورة آل عمران : 146 ] .

وأهل المدن الذين أهلكهم الله لظلمهم كثيرون ، منهم من ذُكر في القرآن مثل عاد وثمود . ومنهم من لم يذكر مثل طَسم وجَديس وآثارُهم باقية في اليمامة .

ومعنى { خاوية على عروشها } أنها لم يبق فيها سقف ولا جدار . وجملة { على عروشها } خبر ثان عن ضمير { فهي } والمعنى : ساقطة على عروشها ، أي ساقطة جدرانها فوق سُقفها .

والعروش : جمع عَرش ، وهو السَقْف ، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية عند قوله تعالى : { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها } في [ سورة البقرة : 259 ] .

والمعطلة : التي عطل الانتفاع بها مع صلاحها للانتفاع ، أي هي نابعة بالماء وحولها وسائل السقي ولكنها لا يستقى منها لأن أهلها هلكوا . وقد وجد المسلمون في مسيرهم إلى تبوك بئاراً في ديار ثمود ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب منها إلا بِئراً واحدة التي شربت منها ناقة صالح عليه السلام .

والقصر : المسكن المبني بالحجارة المجعول طباقاً .

والمَشِيد : المبنيّ بالشّيد بكسر الشين وسكون الياء وهو الجصّ : وإنما يبنى به البناء من الحجر لأنّ الجصّ أشدّ من التراب فبشدة مسكه يطول بقاء الحجر الذي رُصّ به .

والقصور المُشيّدة : وهي المخلفة عن القرى التي أهلكها الله كثيرةٌ مثل : قصر غُمدان في اليمن ، وقصور ثمود في الحِجْر ، وقصور الفراعنة في صعيد مصر ، وفي « تفسير القرطبي » يقال : « إن هذه البئر وهذا القصر بحضرموت معروفان . ويقال : إنها بئر الرّس وكانت في عدن وتسمى حضور بفتح الحاء . وكان أهلها بقية من المؤمنين بصالح الرسول عليه السلام . وكان صالح معهم ، وأنهم آل أمرهم إلى عبادة صنم وأن الله بعث إليهم حَنظلة بن صفوان رسولاً فنهاهم عن عبادة الصنم فقتلوه فغارت البئر وهلكوا عطشاً » . يريد أن هذه القرية واحدة من القرى المذكورة في هذه الآية وإلا فإن كلمة ( كأيّنْ ) تنافي إرادة قرية معيّنة .

وقرأ الجمهور { أهلكناها } بنون العظمة : وقرأه أبو عَمرو ويعقوب { أهلكتُها } بتاء المتكلم .