فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

ثم ذكر سبحانه كيف عذب أهل القرى المكذبة فقال :

{ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي أهلها وقد تقدم الكلام على هذا التركيب في آل عمران { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } المراد بنسبة الظلم إليها نسبته إلى أهلها ، أي وأهلها ظالمون { فَهِيَ خَاوِيَةٌ } الخوي بمعنى السقوط ، أي فهي ساقطة { عَلَى عُرُوشِهَا } أي سقوفها ، وذلك بسبب تعطل سكانها حتى تهدمت فسقطت حيطانها فوق سقوفها ، وإسناد السقوط على العروش إليها لتنزيل الحيطان منزلة كل البنيان لكونها عمدة فيه ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في البقرة . قال قتادة : " خربة ليس فيها أحد " .

{ وَبِئْرٍ } أي ومن أهل بئر { مُّعَطَّلَةٍ } هكذا قال الزجاج ، يقال بأرت الأرض أي حفرتها ، ومنه التأبير وهو شق كيزان طلع الإناث وذر طلع الذكور فيه ، والبئر فعل بمعنى مفعول ، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب ، والمراد بالمعطلة المتروكة . وقيل الخالية عن أهلها لهلاكهم ، وقيل الغائرة ، وقيل معطلة من الدلاء والأرشية . قال قتادة : عطلها أهلها وتركوها . وقال ابن عباس : التي تركت لا أهل لها .

{ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } هو المرفوع البنيان كذا قال قتادة والضحاك . وعن قتادة أيضا : شيدوه وحصنوه فهلكوا وتركوه ، وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد وابن عباس : المراد بالمشيد المجصص مأخوذ من الشيد وهو الجص ، وقيل المشيد الحصين ، قاله الكلبي .

وقال الجوهري : المشيد المعمول بالشيد ، والشيد بالكسر كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط وبالفتح المصدر ، تقول شاده يشيده جصصه والمشيد بالتشديد المطول . قال الكسائي للواحد من قوله تعالى : { في بروج مشيدة } وإنما بني هنا من شاده ، وفي النساء من شيده لأنه هنا وقع بعد جمع فناسب التكثير ، وهنا وقع بعد مفرد فناسب التخفيف ، ولأنه رأس آية وفاصلة . والمعنى وكم من قصر مشيد معطل مثل البئر المعطلة ، ومعنى التعطيل في القصر هو أنه معطل من أهل أو من آلاته أو نحو ذلك .

قال القرطبي في تفسيره : ويقال إن هذه البئر والقصر بحضر موت معروفان ، فالقصر مشرف على قلة جبل{[1242]} لا يرتقي إليه بحال ، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئا سقط فيها إلا أخرجته . وحكى الثعلبي وغيره أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد الحضر ، وأصحاب القصر الحضر وأصحاب البئر ملوك البدو .

وحكى الثعلبي وغيره أيضا أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد يقال له حضور أنزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ونجوا من العذاب ومعهم صالح ، فمات صالح فسمي المكان حضر موت ، لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضورا ، وقعدوا على هذه البئر وامّروا عليهم رجلا منهم ، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا وعبدوا الأصنام وكفروا ، فأرسل الله إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان وكان حمالا فيهم فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله وعطلت بئرهم وخربت قصورهم ثم ذكر قصة طويلة .

وقال بعد ذلك : وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا ، وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الإنس وإقفاره بعد العمران وأن أحدا لم يستطيع أن يدنو منه على أميال لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك ، فبادوا وما عادوا ، فذكرهم الله سبحانه في هذه الآية موعظة وعبرة .

قال : وقيل إنهم الذين أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة الأنبياء في قوله : { وكم قصمنا من قرية } ، فتعطلت بئرهم وخرت قصورهم . ا ه .

وقال النسفي : والأظهر أن البئر والقصر على العموم .


[1242]:قلة جبل بضم القاف أعلى الجبل