قوله تعالى : " فكأين من قرية أهلكناها " أي أهلكنا أهلها . وقد مضى في " آل عمران " {[11547]} الكلام في كأين . " وهي ظالمة " أي بالكفر . " فهي خاوية على عروشها " تقدم في الكهف{[11548]} . " وبئر معطلة وقصر مشيد " قال الزجاج : " وبئر معطلة " معطوف على " من قرية " أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر . والفراء يذهب إلى أن " وبئر " معطوف على " عروشها " . وقال الأصمعي : سألت نافع بن أبي نعيم أيهمز البئر والذئب ؟ فقال : إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما . وأكثر الرواة عن نافع بهمزهما ، إلا ورشا فإن روايته عنه بغير همز فيهما ، والأصل الهمز . ومعنى " معطلة " متروكة ، قاله الضحاك . وقيل : خالية من أهلها لهلاكهم . وقيل : غائرة الماء . وقيل : معطلة من دلائها وأرشيتها ، والمعنى متقارب . " وقصر مشيد " قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل . قال عدي بن زيد :
شادَه مَرْمَرًا وجَلَّلَه كِلْ *** سًا فللطيرِ في ذُرَاهُ وُكُورُ
أي رفعه . وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد : مجصص ، من الشِّيد وهو الجص . قال الراجز{[11549]} :
لا تَحْسَبَنِّي وإن كنتُ امرأً غَمِرَا *** كحية الماء بين الطين والشِّيدِ
ولا أُطُمًا إلا مَشِيدًا بِجَنْدَلِ{[11550]}
وقال ابن عباس : ( " مشيد " أي حصين ) ، وقاله الكلبي . وهو مفعل بمعنى مفعول كمبيع بمعنى مبيوع . وقال الجوهري : والمشيد المعمول بالشيد . والشيد ( بالكسر ) : كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط ، وبالفتح المصدر . تقول : شاده يشيده شيدا جصصه . والمشيد ( بالتشديد ) المطول . وقال الكسائي : " المشيد " للواحد ، من قوله تعالى : " وقصر مشيد " والمشيد للجمع ، من قوله تعالى : " في بروج مشيدة " {[11551]} . [ النساء : 78 ] . وفي الكلام مضمر محذوف تقديره : وقصر مشيد مثلها معطل . ويقال : إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان ، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال ، والبئر في سفحه لا تُقِرُّ الريح شيئا سقط فيه إلا أخرجته . وأصحاب القصور ملوك الحضر ، وأصحاب الآبار ملوك البوادي ، أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء . وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو بكر محمد بن الحسن المقرئ وغيرهما أن البئر الرس ، وكانت بعدن باليمن بحضرموت ، في بلد يقال له حضور ، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ، ونجوا من العذاب ومعهم صالح ، فمات صالح فسمي المكان حضرموت ؛ لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر ، وأمَّروا عليهم رجلا يقال له : العلس بن جلاس بن سويد ، فيما ذكر الغزنوي . الثعلبي : جلهس بن جلاس . وكان حسن السيرة فيهم عاملا عليهم ، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سوادة ، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا ، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك ؛ لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها ، ورجال كثيرون موكلون بها ، وأبازن ( بالنون ) من رخام وهي شبه الحياض كثيرة تملأ للناس ، وآخر للدواب ، وآخر للبقر ، وآخر للغنم . والقوام يسقون عليها بالليل والنهار يتداولون ، ولم يكن لهم ماء غيرها . وطال عمر الملك الذي أمروه ، فلما جاءه الموت طلي بدهن لتبقى صورته لا تتغير ، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم . فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم قد فسد ، وضجوا جميعا بالبكاء ، واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة ، فكلمهم وقال : إني لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم ، ففرحوا أشد الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف الموت في صورته . فنصبوا صنما من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب . وأخبرهم أنه لا يموت أبدا وأنه إلههم{[11552]} ، فذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه ، فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم ، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق له ، وكلما تكلم ناصح لهم زجر وقهر . فأصفقوا{[11553]} على عبادته ، فبعث الله إليهم نبيا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة ، كان اسمه حنظلة بن صفوان ، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له ، وأن الشيطان قد أضلهم ، وأن الله لا يتمثل بالخلق ، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله ، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته ، فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة ولا يغبهم بالنصيحة ، حتى قتلوه في السوق وطرحوه في بئر ، فعند ذلك أصابتهم النقمة ، فباتوا شباعا رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها ، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان ، وضجت البهائم عطشا ، حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك ، وخلفتهم في أرضهم السباع ، وفي منازلهم الثعالب والضباع ، وتبدلت جناتهم وأموالهم بالسدر{[11554]} وشوك العضاه{[11555]} والقتاد{[11556]} ، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد ، نعوذ بالله من سطواته ، ومن الإصرار على ما يوجب نقماته .
قال السهيلي . وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عامر بن إرم ، لم يبن في الأرض مثله - فيما ذكروا وزعموا - وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس ، وإقفاره بعد العمران ، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال ؛ لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادوا وما عادوا ، فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وعبرة وتذكرة ، وذكرا وتحذيرا من مغبة المعصية وسوء عاقبة المخالفة ، نعوذ بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل . وقيل : إن الذي أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة " الأنبياء " في قوله : " وكم قصمنا من قرية " {[11557]} [ الأنبياء : 11 ] . فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.