الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

قوله تعالى : " فكأين من قرية أهلكناها " أي أهلكنا أهلها . وقد مضى في " آل عمران " {[11547]} الكلام في كأين . " وهي ظالمة " أي بالكفر . " فهي خاوية على عروشها " تقدم في الكهف{[11548]} . " وبئر معطلة وقصر مشيد " قال الزجاج : " وبئر معطلة " معطوف على " من قرية " أي ومن أهل قرية ومن أهل بئر . والفراء يذهب إلى أن " وبئر " معطوف على " عروشها " . وقال الأصمعي : سألت نافع بن أبي نعيم أيهمز البئر والذئب ؟ فقال : إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما . وأكثر الرواة عن نافع بهمزهما ، إلا ورشا فإن روايته عنه بغير همز فيهما ، والأصل الهمز . ومعنى " معطلة " متروكة ، قاله الضحاك . وقيل : خالية من أهلها لهلاكهم . وقيل : غائرة الماء . وقيل : معطلة من دلائها وأرشيتها ، والمعنى متقارب . " وقصر مشيد " قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل . قال عدي بن زيد :

شادَه مَرْمَرًا وجَلَّلَه كِلْ *** سًا فللطيرِ في ذُرَاهُ وُكُورُ

أي رفعه . وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد : مجصص ، من الشِّيد وهو الجص . قال الراجز{[11549]} :

لا تَحْسَبَنِّي وإن كنتُ امرأً غَمِرَا *** كحية الماء بين الطين والشِّيدِ

وقال امرؤ القيس :

ولا أُطُمًا إلا مَشِيدًا بِجَنْدَلِ{[11550]}

وقال ابن عباس : ( " مشيد " أي حصين ) ، وقاله الكلبي . وهو مفعل بمعنى مفعول كمبيع بمعنى مبيوع . وقال الجوهري : والمشيد المعمول بالشيد . والشيد ( بالكسر ) : كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط ، وبالفتح المصدر . تقول : شاده يشيده شيدا جصصه . والمشيد ( بالتشديد ) المطول . وقال الكسائي : " المشيد " للواحد ، من قوله تعالى : " وقصر مشيد " والمشيد للجمع ، من قوله تعالى : " في بروج مشيدة " {[11551]} . [ النساء : 78 ] . وفي الكلام مضمر محذوف تقديره : وقصر مشيد مثلها معطل . ويقال : إن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان ، فالقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال ، والبئر في سفحه لا تُقِرُّ الريح شيئا سقط فيه إلا أخرجته . وأصحاب القصور ملوك الحضر ، وأصحاب الآبار ملوك البوادي ، أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء . وذكر الضحاك وغيره فيما ذكر الثعلبي وأبو بكر محمد بن الحسن المقرئ وغيرهما أن البئر الرس ، وكانت بعدن باليمن بحضرموت ، في بلد يقال له حضور ، نزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ، ونجوا من العذاب ومعهم صالح ، فمات صالح فسمي المكان حضرموت ؛ لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضوراء وقعدوا على هذه البئر ، وأمَّروا عليهم رجلا يقال له : العلس بن جلاس بن سويد ، فيما ذكر الغزنوي . الثعلبي : جلهس بن جلاس . وكان حسن السيرة فيهم عاملا عليهم ، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سوادة ، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا ، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك ؛ لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها ، ورجال كثيرون موكلون بها ، وأبازن ( بالنون ) من رخام وهي شبه الحياض كثيرة تملأ للناس ، وآخر للدواب ، وآخر للبقر ، وآخر للغنم . والقوام يسقون عليها بالليل والنهار يتداولون ، ولم يكن لهم ماء غيرها . وطال عمر الملك الذي أمروه ، فلما جاءه الموت طلي بدهن لتبقى صورته لا تتغير ، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت وكان ممن يكرم عليهم . فلما مات شق ذلك عليهم ورأوا أن أمرهم قد فسد ، وضجوا جميعا بالبكاء ، واغتنمها الشيطان منهم فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة ، فكلمهم وقال : إني لم أمت ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم ، ففرحوا أشد الفرح وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم ويكلمهم من ورائه لئلا يعرف الموت في صورته . فنصبوا صنما من وراء الحجاب لا يأكل ولا يشرب . وأخبرهم أنه لا يموت أبدا وأنه إلههم{[11552]} ، فذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه ، فصدق كثير منهم وارتاب بعضهم ، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق له ، وكلما تكلم ناصح لهم زجر وقهر . فأصفقوا{[11553]} على عبادته ، فبعث الله إليهم نبيا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة ، كان اسمه حنظلة بن صفوان ، فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له ، وأن الشيطان قد أضلهم ، وأن الله لا يتمثل بالخلق ، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله ، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته ، فآذوه وعادوه وهو يتعهدهم بالموعظة ولا يغبهم بالنصيحة ، حتى قتلوه في السوق وطرحوه في بئر ، فعند ذلك أصابتهم النقمة ، فباتوا شباعا رواء من الماء وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها وتعطل رشاؤها ، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان ، وضجت البهائم عطشا ، حتى عمهم الموت وشملهم الهلاك ، وخلفتهم في أرضهم السباع ، وفي منازلهم الثعالب والضباع ، وتبدلت جناتهم وأموالهم بالسدر{[11554]} وشوك العضاه{[11555]} والقتاد{[11556]} ، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن وزئير الأسد ، نعوذ بالله من سطواته ، ومن الإصرار على ما يوجب نقماته .

قال السهيلي . وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عامر بن إرم ، لم يبن في الأرض مثله - فيما ذكروا وزعموا - وحاله أيضا كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الأنيس ، وإقفاره بعد العمران ، وإن أحدا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال ؛ لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك فبادوا وما عادوا ، فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وعبرة وتذكرة ، وذكرا وتحذيرا من مغبة المعصية وسوء عاقبة المخالفة ، نعوذ بالله من ذلك ونستجير به من سوء المآل . وقيل : إن الذي أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة " الأنبياء " في قوله : " وكم قصمنا من قرية " {[11557]} [ الأنبياء : 11 ] . فتعطلت بئرهم وخربت قصورهم .


[11547]:راجع ج 4 ص 228.
[11548]:راجع ج 10 ص 410.
[11549]:البيت للشماخ: كما في اللسان من البسيط وليس برجز. والغمر(بفتح الغين وكسر الميم) لغة في الغمر (بضم الغين وسكون الميم) وهو الغرّ الذي لم يجرب الأمور.
[11550]:هذا عجز البيت. وصدره: *وتيهاء لم يترك بها جذع نخلة*
[11551]:راجع ج 5 ص 282.
[11552]:في ب و ك: وأنه إله لهم.
[11553]:أصفقوا على الأمر: اجتمعوا عليه.
[11554]:السدر من الشجر: وهو سدران: أحدهما بري لا ينتفع بثمره ولا يصلح ورقه للغسول ثمره عفص لا يسوغ في الحلق، والعرب تسميه الضال. والسدر الثاني: ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول.
[11555]:العضاه كل شجر يعظم وله شوك، واحدها عضاهة وعضهة وعضة.
[11556]:القتاد: شجر صلب له شوك كالإبر .
[11557]:راجع ج 11 ص 274.