اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ} (45)

قوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } يجوز أن تكون «كأين » منصوبة المحل على الاشتغال بفعل مقدر يفسره ( أَهْلَكْتُهَا ) وأن تكون في محل رفع بالابتداء ، والخبر ( أَهْلَكْتُهَا ) {[31419]} . وتقدم تحقيق القول فيها{[31420]} . قال بعضهم : المراد من قوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } وكم ، على وجه التكثير .

وقيل : معناه : ورب قرية . والأول أولى ، لأنه أوكد في الزجر .

وقوله : «أَهْلَكْتُهَا » قرأ أبو عمرو ويعقوب «أَهْلَكْتُها » بالتاء ، وهو اختيار أبي عبيد لقوله : { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة «أَهْلَكْنَاهَا »{[31421]} .

قوله : { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } جملة حالية من هاء «أَهْلَكْنَاهَا » {[31422]} .

وقوله : { فَهِيَ خَاوِيَةٌ } عطف على «أَهْلَكْتُها » ، فيجوز أن تكون في محل رفع لعطفها على الخبر على القول الثاني ، وأن لا تكون لها محل لعطفها على الجملة المفسرة على القول الأول . وهذا عنى الزمخشري بقوله : والثانية - يعني قوله : «فَهِيَ خَاوِيَةٌ » - لا محل لها ، لأنها معطوفة على «أَهْلَكْنَاهَا » وهذا الفعل ليس له محل{[31423]} . تفريعاً{[31424]} على القول بالاشتغال ، وإلا إذا قلنا إنه خبر لكان له محل ضرورة .

فصل{[31425]}

المعنى : وكم من قرية أهلكتها ( أي أهلها{[31426]} ) لقوله : «وَهِيَ ظَالِمَةٌ » ، أي : وأهلها ظالمون ، «فَهِيَ خَاوِيَةٌ » ساقطة «عَلَى عُرُوشِهَا » على سقوفها . قال الزمخشري : كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش ، والخاوي : الساقط من خوى النجم : إذا سقط ، أو من خوى المنزل : إذا خلا من أهله{[31427]} . فإذا فسرنا الخاوي بالساقط كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها ، أي : خرت سقوفها على الأرض ، ثم تهدمت حيطانها ، فسقطت فوق السقوف . وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خلت من الناس مع بقاء عروشها وسلامتها ويمكن أن يكون خبراً بعد خبر ، أي : هي{[31428]} خالية وهي على عروشها ، يعني أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان قائمة ، فهي مشرفة على السقوف الساقطة{[31429]} . قوله : «وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ » عطف على «قَرْيَةٍ » ، وكذلك «قَصْرٍ » أي : وكأيٍّ من بئر وقصر أهلكناهما{[31430]} . وقيل : يحتمل أن تكون معطوفة وما بعدها على «عُرُوشِها » أي : خاوية على بئر وقصر أيضاً ، وليس بشيء{[31431]} . والبئر : من بأرت الأرض ، أي : حفرتها ومنه التأبير ، وهو شق كيزان الطلع ، والبئر : فعل بمعنى مفعول كالذِّبح بمعنى المَذْبُوح ، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب{[31432]} .

وقوله :

وَبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وَذُو طَوَيْتُ{[31433]} *** . . .

يحتمل التذكير والتأنيث . والمُعَطَّلَةُ : المهملة ، والتعطيل : الإهمال .

وقرأ الحسن : «مُعْطَلَةٍ » بالتخفيف{[31434]} ، يقال : أَعْطَلَتِ{[31435]} البئرُ وعَطَلْتُهَا فعَطَلَتْ بفتح الطاء ، وأما عَطِلَتِ المرأة من الحُلِيّ فبكسر الطاء{[31436]} . والمعنى : وكم من بئر معطلة متروكة مخلاة عن أهلها . والمَشيدُ : المرتفع ، قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل{[31437]} . وقال سعيد بن جُبير وعطاء ومجاهد : المُجصص من الشِّيد{[31438]} وهو الجص{[31439]} . وإنما بني هنا من شاده ، وفي النساء{[31440]} من شَيَّدَهُ ، لأنه هناك بعد جمع فناسب التكثير ، وهنا بعد مفرد فناسب التخفيف ، ولأنه رأس آية وفاصلة{[31441]} .

فصل

المعنى أنه تعالى بيَّن أن{[31442]} القرية مع تكليف بنيانهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف وكذلك{[31443]} البئر التي{[31444]} تكلفوها وصارت شربهم صارت معطلةً بلا شارب ، ولا وارد ، والقصر الذي أحكموه بالجصِّ وطولوه صار خالياً بلا ساكن ، وجعل ذلك عبرة لمن اعتبر ، وهذا يدل على أن تفسير «على » ب «مع » أولى ، لأن التقدير : وهي خاوية مع عروشها{[31445]} . قيل : إنَّ البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن ، أما القصر على قُلَّة{[31446]} جبل والبئر في سفحه{[31447]} ، ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فأهلكهم الله ، وبقي البئر والقصر خاليين{[31448]} . وروى أبو روق عن الضحاك : أن هذه البئر بحضرموت في بلدة يقال لها حاضوراء وذلك أن صالحاً مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به أتوا حضرموت ، فلما نزلوها مات صالح فسميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات ، فبنوا قوم صالح حاضوراء ، وقعدوا على هذه البئر ، وأمروا عليهم جلهس بن{[31449]} جلاس ، وجعلوا وزيره سنحاريب ، فأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً ، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان ، وكان حمّالاً فيهم ، فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله وعطّل بئرهم وخرب قصورهم {[31450]} .

قال الإمام أبو القاسم الأنصاري : وهذا عجيب ، لأني زرت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها{[31451]} : عكا ، فكيف يقال : إنه بحضرموت {[31452]} .


[31419]:انظر التبيان 2/944، البحر المحيط 6/376.
[31420]:عند قوله تعالى: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير} [آل عمران: 146].
[31421]:السبعة (438). الكشف 2/121، النشر 2/327، الإتحاف (316).
[31422]:انظر الكشاف 3/35، البحر المحيط 6/376.
[31423]:الكشاف 3/45.
[31424]:في ب: تعريفا.
[31425]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/44 – 45.
[31426]:ما بين القوسين سقط من ب.
[31427]:الكشاف 3/35.
[31428]:هي: سقط من الأصل.
[31429]:انظر الكشاف أيضا 3/35.
[31430]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/100، تفسير ابن عطية 10/297، البيان 2/178، التبيان 2/945، البحر المحيط 6/376.
[31431]:قال الفراء: (البئر والقصر يخفضان على العروش، وإذا نظرت في معناها وجدتها ليست تحسن فيها (على) لأن العروش أعالي البيوت، والبئر في الأرض، وكذلك القصر، لأن القرية لم تخو على القصر، ولكنه أتبع بعضه بعضا) معاني القرآن 2/228، وهذا يوضح سبب الضعف في هذا الوجه، ولهذا قال أبو حيان: (وجعل "وبئر معطلة وقصر مشيدة" معطوفين على "عروشها" جهل بالفصاحة) البحر المحيط 6/377 ولا يخفى أن الفراء قد عاد في نهاية كلامه إلى تفضيل هذا الوجه وهو العطف على العروش حيث قال: (والأول أحب إلي) معاني القرآن 2/228، وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن 2/100، تفسير ابن عطية 10/297، البيان 2/178.
[31432]:في الأصل: القليل. وهو تحريف.
[31433]:عجز بيت من بحر الوافر قاله سنان بن الفحل الطائي، وصدره: فإن الماء ماء أبي وجدي *** ... وهو في أمالي ابن الشجري 2/306، الإنصاف 1/384، ابن يعيش 3/174، 8/45، شرح التصريح 1/137، الهمع 1/84، الأشموني 1/158، الخزانة 6/34، الدرر 1/59 شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 591.
[31434]:البحر المحيط 6/376.
[31435]:في ب: عطلت.
[31436]:انظر البحر المحيط 6/376.
[31437]:انظر القرطبي 12/74.
[31438]:في ب: المشد. وهو تحريف. الشيد: بالكسر كل ما طلي به الحائط من جص أو ملاط وبالفتح المصدر، تقول: شاده يشيده شيدا: جصصه. اللسان (شيد).
[31439]:انظر القرطبي 12/74.
[31440]:وهو قوله تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} [النساء: 78].
[31441]:انظر البحر المحيط 6/377.
[31442]:في الأصل: أهل. وفي ب: أن أهل.
[31443]:في الأصل: هذا.
[31444]:في الأصل: الذي.
[31445]:انظر الفخر الرازي 23/45.
[31446]:قلة كل شيء: رأسه. والقلة: أعلى الجبل. وقلة كل شيء أعلاه. اللسان (قلل).
[31447]:السفح: عرض الجبل حيث يسفح فيه الماء، وهو عرضه المضطجع، وقيل: أسفل الجبل. وقيل: هو الحضيض الأسفل، والجمع سفوح. اللسان (سفح).
[31448]:انظر البغوي 5/596.
[31449]:في ب: حلبس ابن.
[31450]:انظر البغوي 5/596 – 597، والفخر الرازي 23/45.
[31451]:لها: سقط من الأصل.
[31452]:انظر الفخر الرازي 23/45.