قوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } يجوز أن تكون «كأين » منصوبة المحل على الاشتغال بفعل مقدر يفسره ( أَهْلَكْتُهَا ) وأن تكون في محل رفع بالابتداء ، والخبر ( أَهْلَكْتُهَا ) {[31419]} . وتقدم تحقيق القول فيها{[31420]} . قال بعضهم : المراد من قوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } وكم ، على وجه التكثير .
وقيل : معناه : ورب قرية . والأول أولى ، لأنه أوكد في الزجر .
وقوله : «أَهْلَكْتُهَا » قرأ أبو عمرو ويعقوب «أَهْلَكْتُها » بالتاء ، وهو اختيار أبي عبيد لقوله : { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة «أَهْلَكْنَاهَا »{[31421]} .
قوله : { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } جملة حالية من هاء «أَهْلَكْنَاهَا » {[31422]} .
وقوله : { فَهِيَ خَاوِيَةٌ } عطف على «أَهْلَكْتُها » ، فيجوز أن تكون في محل رفع لعطفها على الخبر على القول الثاني ، وأن لا تكون لها محل لعطفها على الجملة المفسرة على القول الأول . وهذا عنى الزمخشري بقوله : والثانية - يعني قوله : «فَهِيَ خَاوِيَةٌ » - لا محل لها ، لأنها معطوفة على «أَهْلَكْنَاهَا » وهذا الفعل ليس له محل{[31423]} . تفريعاً{[31424]} على القول بالاشتغال ، وإلا إذا قلنا إنه خبر لكان له محل ضرورة .
فصل{[31425]}
المعنى : وكم من قرية أهلكتها ( أي أهلها{[31426]} ) لقوله : «وَهِيَ ظَالِمَةٌ » ، أي : وأهلها ظالمون ، «فَهِيَ خَاوِيَةٌ » ساقطة «عَلَى عُرُوشِهَا » على سقوفها . قال الزمخشري : كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش ، والخاوي : الساقط من خوى النجم : إذا سقط ، أو من خوى المنزل : إذا خلا من أهله{[31427]} . فإذا فسرنا الخاوي بالساقط كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها ، أي : خرت سقوفها على الأرض ، ثم تهدمت حيطانها ، فسقطت فوق السقوف . وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خلت من الناس مع بقاء عروشها وسلامتها ويمكن أن يكون خبراً بعد خبر ، أي : هي{[31428]} خالية وهي على عروشها ، يعني أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان قائمة ، فهي مشرفة على السقوف الساقطة{[31429]} . قوله : «وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ » عطف على «قَرْيَةٍ » ، وكذلك «قَصْرٍ » أي : وكأيٍّ من بئر وقصر أهلكناهما{[31430]} . وقيل : يحتمل أن تكون معطوفة وما بعدها على «عُرُوشِها » أي : خاوية على بئر وقصر أيضاً ، وليس بشيء{[31431]} . والبئر : من بأرت الأرض ، أي : حفرتها ومنه التأبير ، وهو شق كيزان الطلع ، والبئر : فعل بمعنى مفعول كالذِّبح بمعنى المَذْبُوح ، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب{[31432]} .
وَبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وَذُو طَوَيْتُ{[31433]} *** . . .
يحتمل التذكير والتأنيث . والمُعَطَّلَةُ : المهملة ، والتعطيل : الإهمال .
وقرأ الحسن : «مُعْطَلَةٍ » بالتخفيف{[31434]} ، يقال : أَعْطَلَتِ{[31435]} البئرُ وعَطَلْتُهَا فعَطَلَتْ بفتح الطاء ، وأما عَطِلَتِ المرأة من الحُلِيّ فبكسر الطاء{[31436]} . والمعنى : وكم من بئر معطلة متروكة مخلاة عن أهلها . والمَشيدُ : المرتفع ، قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل{[31437]} . وقال سعيد بن جُبير وعطاء ومجاهد : المُجصص من الشِّيد{[31438]} وهو الجص{[31439]} . وإنما بني هنا من شاده ، وفي النساء{[31440]} من شَيَّدَهُ ، لأنه هناك بعد جمع فناسب التكثير ، وهنا بعد مفرد فناسب التخفيف ، ولأنه رأس آية وفاصلة{[31441]} .
المعنى أنه تعالى بيَّن أن{[31442]} القرية مع تكليف بنيانهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف وكذلك{[31443]} البئر التي{[31444]} تكلفوها وصارت شربهم صارت معطلةً بلا شارب ، ولا وارد ، والقصر الذي أحكموه بالجصِّ وطولوه صار خالياً بلا ساكن ، وجعل ذلك عبرة لمن اعتبر ، وهذا يدل على أن تفسير «على » ب «مع » أولى ، لأن التقدير : وهي خاوية مع عروشها{[31445]} . قيل : إنَّ البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن ، أما القصر على قُلَّة{[31446]} جبل والبئر في سفحه{[31447]} ، ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فأهلكهم الله ، وبقي البئر والقصر خاليين{[31448]} . وروى أبو روق عن الضحاك : أن هذه البئر بحضرموت في بلدة يقال لها حاضوراء وذلك أن صالحاً مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به أتوا حضرموت ، فلما نزلوها مات صالح فسميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات ، فبنوا قوم صالح حاضوراء ، وقعدوا على هذه البئر ، وأمروا عليهم جلهس بن{[31449]} جلاس ، وجعلوا وزيره سنحاريب ، فأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً ، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان ، وكان حمّالاً فيهم ، فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله وعطّل بئرهم وخرب قصورهم {[31450]} .
قال الإمام أبو القاسم الأنصاري : وهذا عجيب ، لأني زرت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها{[31451]} : عكا ، فكيف يقال : إنه بحضرموت {[31452]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.