تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَتَجۡعَلُونَ رِزۡقَكُمۡ أَنَّكُمۡ تُكَذِّبُونَ} (82)

{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال بعضهم : يعني : وتجعلون رزقكم بمعنى شكركم أنكم تكذبون ، أي : تكذبون بدل الشكر .

وقد روي عن علي ، وابن عباس أنهما قرآها : " وتجعلون شكركم{[28160]} أنكم تكذبون " كما سيأتي .

وقال ابن جرير : وقد ذكر عن الهيثم بن عدي : أن من لغة أزد شَنوءةَ : ما رزق فلان بمعنى : ما شكر فلان .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } ، يقول : " شكركم { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } ، تقولون : مطرنا بِنَوء كذا وكذا ، بنجم كذا وكذا " {[28161]} .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن مُخَوَّل{[28162]} بن إبراهيم النهدي - وابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن عبيد الله بن موسى ، وعن يعقوب بن إبراهيم ، عن يحيى بن أبي بُكَيْر ، ثلاثتهم عن إسرائيل ، به مرفوعًا{[28163]} . وكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن مَنِيع ، عن حسين بن محمد - وهو المروزي - به . وقال : " حسن غريب " . وقد رواه سفيان ، عن عبد الأعلى ، ولم يرفعه {[28164]} .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : ما مُطِرَ قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرًا يقولون : مُطِرْنَا بنوء كذا وكذا . وقرأ ابن عباس : " وتجعلون شكركم أنكم تكذبون " .

وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس .

وقال مالك في الموطأ ، عن صالح بن كيْسَان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن زيد بن خالد الجُهَنِي أنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب . وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا . فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب " .

أخرجاه في الصحيحين ، وأبو داود ، والنسائي ، كلهم من حديث مالك ، به{[28165]} .

وقال مسلم : حدثنا محمد بن سلمة المرادي ، وعَمْرو بن سَوّاد ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ؛ أن أبا يونس حَدَّثه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ، ينزل الغيث ، فيقولون : بكوكب كذا وكذا " .

تَفَرَّد به مسلم من هذا الوجه{[28166]} .

وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لَيُصْبِحُ القومَ بالنعمة أو يُمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين يقولون : مُطِرنا بنوء كذا وكذا " .

قال محمد - هو ابن إبراهيم - : فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب ، فقال : ونحن قد سمعنا من أبي هُرَيرة ، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وهو يستسقي ، فلما استسقى التفت إلى العباس فقال : يا عباس ، يا عم رسول الله ، كم بقى من نوء الثريا ؟ فقال : العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعًا . قال : فما مضت سابعة حتى مُطِروا{[28167]} .

وهذا مَحمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر ، لا أن ذلك النوء يؤثر بنفسه في نزول المطر ؛ فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده . وقد تقدم شيء من هذه الأحاديث عند قوله : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا } [ فاطر : 2 ] .

وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية - أحسبه أو غيره - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا - ومطروا - يقول : مُطِرنا ببعض عَشَانين الأسد . فقال : " كذبت ! بل هو رزق الله " {[28168]} .

ثم قال ابن جرير : حدثني أبو صالح الصراري ، حدثنا أبو جابر محمد بن عبد الملك الأزدي{[28169]} ، حدثنا جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما مُطِر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين " {[28170]} . ثم قال : " { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } ، يقول قائل : مُطِرنا بنجم كذا وكذا " {[28171]} .

وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعًا : " لو قُحِطَ الناس سبع سنين ثم مطروا لقالوا : مطرنا بنوء المِجْدَح " {[28172]} .

وقال مجاهد : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال : قولهم في الأنواء : مُطِرنا بنوء كذا ، وبنوء كذا ، يقول : قولوا : هو من عند الله ، وهو رزقه . وهكذا قال الضحاك وغير واحد .

وقال قتادة : أما الحسن فكان يقول : بئس ما أخذ قوم لأنفسهم ، لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب . فمعنى قول الحسن هذا : وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به ؛ ولهذا قال قبله : { أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ . وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }


[28160]:- (7) في أ: "بشكركم".
[28161]:- (1) المسند (1/108).
[28162]:- (2) في أ: "عن محمد".
[28163]:- (3) تفسير الطبري (27/119).
[28164]:- (4) سنن الترمذي برقم (3295).
[28165]:- (5) الموطأ (1/192) وصحيح البخاري برقم (846) وصحيح مسلم برقم (71) وسنن أبي داود برقم (3906) وسنن النسائي (3/164).
[28166]:- (6) صحيح مسلم برقم (72).
[28167]:- (1) تفسير الطبري (27/120).
[28168]:- (2) تفسير الطبري (27/120).
[28169]:- (3) في أ: "الأودي".
[28170]:- (4) في أ: "كافرون" وهو خطأ.
[28171]:- (5) تفسير الطبري (27/120).
[28172]:- (6) رواه الإمام أحمد في مسنده (3/7) وابن حبان في صحيحه برقم (606) "موارد" من طريق عمرو بن دينار عن عتاب بن حنين عن أبي سعيد بلفظ: "لو أمسك الله القطر عن الناس سبع سنين ثم أرسله لأصبحت طائفة بها كافرين يقولون: مطرنا بنوء المجدح".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَتَجۡعَلُونَ رِزۡقَكُمۡ أَنَّكُمۡ تُكَذِّبُونَ} (82)

إذا جرينا على ما فَسر به المفسرون تكون هذه الجملة عطفاً على جملة { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } [ الواقعة : 81 ] عطفَ الجملة على الجملة فتكون داخلة في حيّز الاستفهام ومستقلة بمعناها .

والمعنى : أفتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ، وهو تفريع على ما تضمنه الاستدلال بتكوين نسل الإنسان وخلق الحَب ، والماء في المزن ، والنار من أعواد الاقتداح ، فإن في مجموع ذلك حصول مقومات الأقوات وهي رزق ، والنسل رزق ، يقال : رُزق فلان ولَداً ، لأن الرزق يطلق على العطاء النافع ، قال لبيد :

رُزقتْ مرابيعَ النجومِ وصَابها *** وَدْقُ الرواعد جَوْدُها فرهامها

أي أعطيتْ وقال تعالى : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } [ الذاريات : 57 ] فعطف الإِطعام على الرزق والعطف يقتضي المغايرة .

والاستفهام المقدر بعد العاطف إنكاري ، وإذ كان التكذيب لا يصح أن يجعل رزقاً تعين بدلالة الاقتضاء تقدير محذوف يفيده الكلام فقدره المفسرون : شُكْر رزقكم ، أو نحوه ، أي تجعلون شكر الله على رزقه إياكم أن تكذبوا بقدرته على إعادة الحياة ، لأنهم عدلوا عن شكر الله تعالى فيما أنعم به عليهم فاستنقصوا قدرته على إعادة الأجسام ، ونسبوا الزرع لأنفسهم ، وزعموا أن المطر تمطره النجوم المسماة بالأنواء فلذلك قال ابن عباس : نزلت في قولهم : مُطرنا بنوء كذا ، أي لأنهم يقولونه عن اعتقاد تأثير الأنواء في خَلْق المطر ، فمعنى قول ابن عباس : نزلت في قولهم : مطرنا بنوء كذا ، أنه مراد من معنى الآية .

قال ابن عطية : أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله الله رزقاً : هذا بنوء كذا وكذا اهـ .

أشار هذا إلى ما روي في « الموطأ » عن زيد بن خالد الجهني قال : صلّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثْر سماء فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قالَ : قَال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بِنَوْءِ كذا ونوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ، وليس فيه زيادة فنزلت هذه الآية ولو كان نزولها يومئذٍ لقاله الصحابي الحاضر ذلك اليوم .

ووقع في « صحيح مسلم » عن ابن عباس أنه قال : « مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر ، قالوا : هذه رحمة الله ، وقال بعضهم : لقد صَدق نَوْء كذا وكذا . قال فنزلت : { فلا أقسم بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] حتى بلغ { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } فزاد على ما في حديث زيد بن خالد قوله فنزلت : { فلا أقسم } الخ .

وزيادة الراوي مختلف في قبولها بدون شرط أو بشرط عدم اتحاد المجلس ، أو بشرط أن لا يكون ممن لا يغفل مثلُه عن مثل تلك الزيادة عادةً وهي أقوال لأئمة الحديث وأصول الفقه ، وابن عباس لم يكن في سن أهل الرواية في مدة نزول هذه السورة بمكة فعل قوله : فنزلت تأويل منه ، لأنه أراد أن الناس مُطرواً في مكة في صدر الإسلام فقال المؤمنون قولاً وقال المشركون قولاً فنزلت آية { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } تنديداً على المشركين منهم بعقيدة من العقائد التي أنكرها الله عليهم وأن ما وقع في الحديبية مطر آخر لأن السورة نزلت قبل الهجرة .

ولم يرو أن هذه الآية ألحقت بالسورة بعد نزول السورة .

ولعل الراوي عنه لم يحسن التعبير عن كلامه فأوهم بقوله فنزلت { فلا أقسم بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] بأن يكون ابن عباس قال : فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { فلا أقسم بمواقع النجوم ، أو نحو تلك العبارة . وقد تكرر مثل هذا الإِيهام في أخبار أسباب النزول ويتأكد هذا صيغة تكذبون } لأن قولهم : مطرنا بنوء كذا ، ليس فيه تكذيب بشيء ، ولذلك احتاج ابن عطية إلى تأويله بقوله : « فإن الله تعالى قال : { ونزلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحبَّ الحصيد والنخلَ باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد } [ ق : 9 11 ] فهذا معنى { أنكم تكذبون } أي تكذبون بهذا الخبر .

والذي نحاه الفخر منحى آخر فجعل معنى { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } تكملة للإِدهان الذي في قوله تعالى : { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } [ الواقعة : 81 ] فقال : « أي تخافون أنكم إن صدّقتم بالقرآن ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون الرسول أي فيكون عطفاً على { مدهنون } [ الواقعة : 81 ] عطف فعل على اسم شبيه به ، وهو من قبيل عطف المفردات ، أي أنتم مدهنون وجاعلون رزقكم أنكم تكذِّبون ، فهذا التكذيب من الإدهان ، أي أنهم يعلمون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم يظهرون تكذيبه إبقاء على منافعهم فيكون كقوله تعالى : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [ الأنعام : 33 ] . وعلى هذا يقدر قوله : { أنكم تكذبون } مجروراً بباء الجر محذوفة ، والتقدير : وتجعلون رزقكم بأنكم تكذبون ، أي تجعلون عوضه بأن تكذِّبوا بالبعث » .