تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

يقول تعالى بيانا لأنه الخالق لكل شيء ، من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة وقسَّموها وجَزَّءوها ، فجعلوا منها حرامًا وحلالا فقال : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ }

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مَعْرُوشَاتٍ } مسموكات . وفي رواية : " المعروشات " : معروشات ما عرش الناس ، { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } ما خرج في البر والجبال من الثمرات .

وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : { مَعْرُوشَاتٍ } ما عرش من الكرم { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } ما لم يعرش من الكرم . وكذا قال السدي .

وقال ابن جُرَيْج : { مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } قال : متشابه في المنظر ، وغير متشابه في الطعم .

وقال محمد بن كَعْب : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } قال : من رطبه وعنَبه .

وقوله{[11265]} تعالى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال ابن جرير : قال بعضهم : هي الزكاة المفروضة .

حدثنا عمرو ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا يزيد بن درهم قال : سمعت أنس بن مالك يقول : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : الزكاة المفروضة .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } يعني : الزكاة المفروضة ، يوم يُكَال ويعلم كيله . وكذا قال سعيد بن المسيب .

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده ، لم يخرج مما حصد شيئًا فقال الله : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وذلك أن يعلم ما كيله وحقه ، من كل عشرة واحدًا ، ما يَلْقُط{[11266]} الناس من سنبله .

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه من حديث محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن يحيى ابن حبَّان ، عن عمه واسع بن حبان ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ من كُل جاد عَشْرَة أوسُق من التمر ، بقنْو يعلق في المسجد للمساكين{[11267]} وهذا إسناده جيد قوي .

وقال طاوس ، وأبو الشعثاء ، وقتادة ، والحسن ، والضحاك ، وابن جُرَيْج : هي الزكاة .

وقال الحسن البصري : هي الصدقة من الحب والثمار ، وكذا قال زيد بن أسلم .

وقال آخرون : هو حق آخر سوى الزكاة .

وقال{[11268]} أشعث ، عن محمد بن سِيرين ، ونافع ، عن ابن عمر في قوله : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة . رواه ابن مردويه . وروى عبد الله بن المبارك وغيره . عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح في قوله : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : يعطي من حضره يومئذ ما تيسر ، وليس بالزكاة .

وقال مجاهد : إذا حضرك المساكين ، طرحت لهم منه .

وقال عبد الرزاق ، عن ابن عيينة{[11269]} عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : عند الزرع يعطي القبض ، وعند الصرام يعطي القبض ، ويتركهم فيتبعون آثار الصرام .

وقال الثوري ، عن حماد ، عن إبراهيم [ النخعي ]{[11270]} قال : يعطي مثل الضغث .

وقال ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : كان هذا قبل الزكاة : للمساكين ، القبضة الضغث لعلف دابته .

وفي حديث ابن لَهِيعة ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد مرفوعًا : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }

قال : ما سقط من السنبل . رواه ابن مَرْدُويه{[11271]} .

وقال آخرون : هذا كله شيء كان واجبًا ، ثم نسخه الله بالعشر ونصف العشر . حكاه ابن جرير عن ابن عباس ، ومحمد بن الحنفية ، وإبراهيم النخعي ، والحسن ، والسدي ، وعطية العَوْفي . واختاره ابن جرير ، رحمه{[11272]} الله .

قلت : وفي تسمية هذا نسخًا نظر ؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل ، ثم إنه فصل بيانه وبَيَّن مقدار المخرج وكميته . قالوا : وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة ، فالله أعلم .

وقد ذم الله سبحانه الذين يصومون ولا يتصدقون ، كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة " ن " : { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } أي : كالليل المدلهم سوداء محترقة { فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } أي : قوة وجلد وهمة { قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ القلم : 17 - 33 ] .

وقوله : { وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } قيل : معناه : ولا تسرفوا في الإعطاء ، فتعطوا فوق المعروف .

وقال أبو العالية : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا ، ثم تباروا فيه وأسرفوا ، فأنزل الله : { وَلا تُسْرِفُوا }

وقال ابن جُرَيْج{[11273]} نزلت في ثابت بن قَيْس بن شَمَّاس ، جذَّ نخلا . فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته . فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة ، فأنزل الله : { وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } رواه ابن جرير ، عنه .

وقال ابن جريج ، عن عطاء : ينهى عن السرف في كل شيء .

وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف .

وقال السدي في قوله : { وَلا تُسْرِفُوا } قال : لا تعطوا أموالكم ، فتقعدوا فقراء .

وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب ، في قوله : { وَلا تُسْرِفُوا } قال : لا تمنعوا الصدقة فتعصوا .

ثم اختار ابن جرير قول عطاء : إنه نَهْيٌ عن الإسراف في كل شيء . ولا شك أنه صحيح ، لكن الظاهر - والله أعلم - من سياق الآية حيث قال تعالى : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] }{[11274]} أن يكون عائدًا على الأكل ، أي : ولا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن ، كما قال تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] {[11275]} } [ الأعراف : 31 ] ، وفي صحيح البخاري تعليقًا : " كلوا واشربوا ، والبسوا وتصدقوا ، في غير إسراف ولا مخيلة " {[11276]} وهذا من هذا ، والله أعلم .


[11265]:في أ: "قال".
[11266]:في د: "وما يلفظه".
[11267]:المسند (3/359) وسنن أبي داود برقم (1662).
[11268]:في أ: "قال".
[11269]:في أ: "قتينة".
[11270]:زيادة من أ.
[11271]:ورواه النحاس في الناسخ المنسوخ (ص427): حدثنا الحسن بن غليب، حدثنا عمران بن أبي عمران، حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم يروى عن أبي الهيثم مناكير.
[11272]:في أ: "رحمهم".
[11273]:في م: "ابن جرير".
[11274]:زيادة من م، أ.
[11275]:زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
[11276]:صحيح البخاري ( 10/252) "فتح"، وقد وصله ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر برقم (51) فرواه من طريق همام، عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّـٰتٖ مَّعۡرُوشَٰتٖ وَغَيۡرَ مَعۡرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٖۚ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} (141)

{ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه }

الواو في : { وهو الذي أنشأ } للعطف ، فيكون عطف هذه الجملة على جملة { وحرّموا ما رزقهم الله } [ الأنعام : 140 ] تذكيراً بمنة الله تعالى على النّاس بما أنشأ لهم في الأرض ممّا ينفعهم ، فبعد أن بيّن سوء تصرّف المشركين فيما مَنّ به على النّاس كلّهم مع تسفيه آرائهم في تحريم بعضها على أنفسهم ، عطف عليه المنّة بذلك استنزالاً بهم إلى إدراك الحقّ والرّجوعِ عن الغي ، ولذلك أعيد في هذه الآية غالب ما ذكر في نظيرتها المتقدّمة في قوله : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كلّ شيء فأخرجنا منه خَضِراً نُخرِج منه حبّاً متراكباً ومن النّخل من طلعها قنوان دانية وجنّات من أعناب والزّيتون والرمّان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه } [ الأنعام : 99 ] لأنّ المقصود من الآية الأولى الاستدلال على أنَّه الصّانع ، وأنَّه المنفرد بالخلق ، فكيف يشركون به غيره . ولذلك ذيّلها بقوله : { إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } [ الأنعام : 99 ] ، وعطف عليها قوله : { وجعلوا لله شركاء الجنّ } [ الأنعام : 100 ] الآيات .

والمقصود من هذه : الامتنانُ وإبطالُ ما ينافي الامتنان ولذلك ذيّلت هذه بقوله : { كلوا من ثمره إذا أثمر } .

والكلام موجّه إلى المؤمنين والمشركين ، لأنَّه اعتبار وامتنان ، وللمؤمنين الحظّ العظيم من ذلك ، ولذلك أعقب بالأمر بأداء حق الله في ذلك بقوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } إذ لا يصلح ذلك الخطاب للمشركين .

وتعريف المسند يفيد الاختصاص ، أي هو الّذي أنشأ لا غيره ، والمقصود من هذا الحصرِ إبطالُ أن يكون لغيره حظّ فيها ، لإبطال ما جعلوه من الحرث والأنعام من نصيب أنصامهم مع أنّ الله أنشأه .

والإنشاءُ : الإيجاد والخلق ، قال تعالى : { إنَّا أنشأناهنّ إنشاءً } [ الواقعة : 35 ] أي نساء الجنّة .

والجنّات هي المكان من الأرض النّابت فيه شجر كثير بحيث يَجِنّ أي يَستر الكائن فيه ، وقد تقدّم عند قوله : { كمثل جنّة برُبْوة } في سورة البقرة ( 265 ) . وإنشاؤها إنباتها وتيسير ذلك بإعطائها ما يعينها على النماء ، ودفععِ ما يفسدها أو يقطع نبتها ، كقوله : { أنتم تزرعونه أم نحن الزّارعون } [ الواقعة : 64 ] .

والمعروشات : المرفوعات . يقال : عرش الكرمة إذا رفعها على أعمدة ليكون نماؤها في ارتفاع لا على وجه الأرض ، لأنّ ذلك أجود لعنبها إذ لم يكن ملقى على وجه الأرض . وعَرش فعل مشتقّ من العَرْش وهو السقف ، ويقال للأعمدة التي تُرفع فوقها أغصان الشّجر فتصير كالسّقف يَستظلّ تحته الجالسُ : العَريشُ . ومنه ما يذكر في السيرة : العريش الّذي جُعل للنّبيء صلى الله عليه وسلم يومَ بدر ، وهو الّذي بني على بقعته مسجد بعد ذلك هو اليوم موجود ببدر . ووصف الجنّات بمعروشات مجاز عقلي ، وإنَّما هي معروش فيها ، والمعروش أشجارها .

وغير المعروشات المبقاة كرومها منبسطة على وجه الأرض وأرفع بقليل ، ومن محاسنها أنَّها تزيّن وجه الأرض فيرى الرائي جميعها أخضر .

وقوله : { معروشات وغير معروشات } صفة : ل { جنّات } قصد منها تحسين الموصوف والتّذكيرُ بنعمة الله أن ألْهَم الإنسان إلى جعلها على صفتين ، فإنّ ذكر محاسن ما أنشأه الله يزيد في المنّة ، كقوله في شأن الأنعام { ولكم فيها جَمَالٌ حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] .

و { مختلفا أكلهُ } حال من الزّرع ، وهو أقرب المذكورات إلى اسم الحال ، ويعلم أنّ النّخل والجنّات كذلك ، والمقصود التّذكير بعجيب خلق الله ، فيفيد ذكرُ الحال مع أحد الأنواع تذكّر مثله في النوع الآخر ، وهذا كقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها } [ الجمعة : 11 ] أي وإليه ، وهي حال مقدّرة على ظاهر قول النّحويين لأنَّها مستقبلة عن الإنشاء ، وعندي أنّ عامل الحال إذا كان ممّا يحصل مَعناه في أزمنة ، وكانت الحال مقارنة لبعض أزمنة عاملها ، فهي جديرة بأن تكون مقارنة ، كما هنا .

( والأُكْل ) بضمّ الهمزة وسكون الكاف لنافع وابن كثير ، و بضمّهما قرأه الباقون ، هو الشّيء الّذي يؤكل ، أي مختلفا مَا يؤكل منه .

وعُطف : { والزيتون والرمان } على : { جنّاتٍ . . . والنّخلَ والزّرعَ } . والمراد شجر الزّيتون وشجر الرمّان . وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السّماء ماء } الآية في هذه السّورة ( 99 ) .

إلاّ أنَّه قال هناك : { مُشْتَبِها } [ الأنعام : 99 ] وقال هنا : { متشابها } وهما بمعنى واحد لأنّ التّشابه حاصل من جانبين فليست صيغة التّفاعل للمبالغة ألا ترى أنَّهما استويا في قوله : { وغير متشابه } في الآيتين .

{ كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه وءاتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين }

غُيّر أسلوبُ الحكاية عن أحوال المشركين فأُقبل على خطاب المؤمنين بهذه المنّة وهذا الحكم ؛ فهذه الجمل معترضة وهي تعريض بتسفيه أحلام المشركين لتحريمهم على أنفسهم ما مَنّ الله به عليهم .

والثَمَر : بفتح الثّاء والميم وبضمّهما وقرىء بهما كما تقدّم بيانه في نظيرتها .

والأمر للإباحة بقرينة أن الأكل من حقّ الإنسان الّذي لا يجب عليه أن يفعله ، فالقرينة ظاهرة . والمقصود الردّ على الّذين حجّروا على أنفسِهِم بعض الحرث .

و { إذا } مفيدة للتّوقيت لأنها ظرف ، أي : حين إثماره ، والمقصود من التّقييد بهذا الظّرف إباحة الأكل منه عند ظهوره وقبل حصاده تمهيداً لقوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } أي : كلوا منه قبل أداء حقّه . وهذه رخصة ومنّة ، لأنّ العزيمة أن لا يأكلوا إلاّ بعد إعطاء حقّه كيلا يستأثروا بشيء منه على أصحاب الحقّ ، إلاّ أنّ الله رخّص للنّاس في الأكل توسعة عليهم أن يأكلوا منه أخضر قبل يبسه لأنَّهم يستطيبونه كذلك ، ولذلك عقّبه بقوله : { ولا تسرفوا } كما سيأتي .

وإفراد الضّميرين في قوله : { من ثمره إذا أثمر } على اعتبار تأويل المعاد بالمذكور .

والأمر في قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } خطاب خاصّ بالمؤمنين كما تقدم . وهذا الأمر ظاهر في الوجوب بقرينة تسمية المأمور به حقّاً .

وأضيف الحقّ إلى ضمير المذكور لأدنى ملابسة ، أي الحقّ الكائن فيه .

وقد أُجمل الحقّ اعتماداً على ما يعرفونه ، وهو : حقّ الفقير ، والقربى ، والضّعفاء ، والجيرة . فقد كان العرب ، إذا جَذّوا ثمارهم ، أعطوا منها من يحضر من المساكين والقرابة . وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : { فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } [ القلم : 23 ، 24 ] . فلمّا جاء الإسلام أوجب على المسلمين هذا الحقّ وسمَّاه حقاً كما في قوله تعالى : { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } [ المعارج : 24 ، 25 ] ، وسمّاه الله زكاة في آيات كثيرة ولكنّه أجمل مقداره وأجمل الأنواعَ الّتي فيها الحقّ ووكلهم في ذلك إلى حرصهم على الخير ، وكان هذا قبل شرع نصُبُها ومقاديرها . ثمّ شرعت الزّكاة وبيّنت السنّة نصبها ومقاديرها .

والحِصاد بكسر الحاء وبفتحها قطع الثّمر والحبّ من أصوله ، وهو مصدر على وزننِ الفِعال أو الفَعال . قال سيبويه « جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزّمان على مثال فِعال وذلك الصِّرام والجِزاز والجِدَاد والقِطاع والحِصاد ، وربَّما دخلتِ اللّغة في بعض هذا ( أي اختلفت اللّغاتُ فقال بعض القبائل حَصاد بفتح الحاء وقال بعضهم حصاد بكسر الحاء ) فكان فيه فعال وفَعال فإذا أرادوا الفعل على فَعَلْت قالوا حَصَدته حَصْداً وقَطَعْته قطعاً إنَّما تريد العمل لا انتهاء الغاية » .

وقرأه نافع ، وابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف بكسر الحاء . وقرأ أبُو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، ويعقوب بفتح الحاء .

وقد فرضت الزّكاة في ابتداء الإسلام مع فرض الصّلاة ، أو بعده بقليل ، لأنّ افتراضها ضروري لإقامة أود الفقراء من المسلمين وهم كثيرون في صدر الإسلام ، لأنّ الّذين أسلموا قد نبذهم أهلوهم ومواليهم ، وجحدوا حقوقهم ، واستباحوا أموالهم ، فكان من الضّروري أن يسدّ أهل الجدة والقوّة من المسلمين خَلَّتهم . وقد جاء ذكر الزّكاة في آيات كثيرة ممّا نزل بمكّة مثل سورة المزمّل وسورة البيّنة وهي من أوائل سور القرآن ، فالزّكاة قرينة الصّلاة . وقول بعض المفسّرين : الزّكاة فرضت بالمدينة ، يحمل على ضبط مقاديرها بآية { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [ التوبة : 103 ] وهي مدنيَّة ، ثمّ تطرّقوا فمنعوا أن يكون المراد بالحقّ هنا الزّكاة ، لأنّ هذه السّورة مكّيّة بالاتّفاق ، وإنَّما تلك الآية مؤكّدة للوجوب بعد الحلول بالمدينة ، ولأنّ المراد منها أخذها من المنافقين أيضاً ، وإنَّما ضبطت الزّكاة . ببيان الأنواع المزكاة ومقدار النُّصب والمُخْرَج منه ، بالمدينة ، فلا ينافي ذلك أن أصل وجوبها في مكّة ، وقد حملها مالك على الزّكاة المعيّنة المضبوطة في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه وهو قول ابن عبّاس ، وأنس بن مالك ، وسعيد بن المسيّب ، وجمع من التّابعين كثير . ولعلّهم يرون الزّكاة فرضت ابتداء بتعيين النّصب والمقادير ، وحَملها ابنُ عمر ، وابنُ الحنفية ، وعليّ بن الحسين ، وعطاء ، وحمَّاد ، وابن جبير ، ومجاهد ، على غير الزّكاة وجعلوا الأمر للنّدب ، وحملها السُدّي ، والحسن ، وعطيّة العوفي ، والنّخعي ، وسعيد بن جبير ، في رواية عنه ، على صدقة واجبة ثمّ نسختها الزّكاة .

وإنَّما أوجب الله الحقّ في الثّمار والحبّ يوم الحصاد : لأنّ الحصاد إنَّما يراد للادّخار وإنَّما يَدّخِر المرء ما يريده للقوت ، فالادّخار هو مظنة الغني الموجبة لإعطاء الزّكاة ، والحصاد مبدأ تلك المظنة ، فالّذي ليست له إلاّ شجرة أو شجرتان فإنَّما يأكلُ ثمرها مخضوراً قبل أن ييبس ، فلذلك رخَّصت الشّريعة لصاحب الثّمرة أن يأكل من الثّمر إذا أثمر ، ولم توجب عليه إعطاء حقّ الفقراء إلاّ عند الحصاد . ثمّ إنّ حصاد الثّمار ، وهو جذاذها ، هو قطعها لادّخارها ، وأمَّا حصاد الزّرع فهو قطع السّنبل من جذور الزّرع ثمّ يُفرك الحبّ الّذي في السّنبل ليدّخر ، فاعتبر ذلك الفرك بقيّة للحصاد . ويظهر من هذا أنّ الحقّ إنَّما وجب فيما يحصد من المذكورات مثل الزّبيب والتَّمر والزّرع والزّيتون ، من زيته أو من حبّه ، بخلاف الرمّان والفواكه .

وعلى القول المختار : فهذه الآية غير منسوخة ، ولكنّها مخصّصة ومبيَّنة بآيات أخرى وبما يبيّنه النَّبيء صلى الله عليه وسلم فلا يُتعلّق بإطلاقها ، وعن السدّي أنَّها نسخت بآية الزّكاة يعني : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] وقد كان المتقدّمون يسمّون التّخصيص نسخاً .

وقوله : { ولا تسرفوا } عطف على { كلوا } ، أي : كلوا غيرَ مسرفين . والإسراف والسّرف : تجاوز الكافي من إرضاء النّفس بالشّيء المشتهى . وتقدّم عند قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة النّساء ( 6 ) . وهذا إدماج للنّهي عن الإسراف ، وهو نهي إرشاد وإصلاح ، أي : لا تسرفوا في الأكل وهذا كقوله : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] . والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التّوسّع في تحصيل المرغوبات ، فيرتكب لذلك مَذمَّات كثيرة ، وينتقل من ملذّة إلى ملذّة فلا يقف عند حدّ .

وقيل عطف على { وآتوا حقه } أي ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقّه فتنفقوا أكثر ممّا يجب ، وهذا لا يكون إلاّ في الإنفاق والأكل ونحوه ، فأمَّا بذله في الخيرْ ونفع النّاس فليس من السّرف ، ولذلك يعدّ من خطأ التّفسير : تفسيرُها بالنَّهي عن الإسراف في الصّدقة ، وبما ذكروه أنّ ثابتَ بن قيس صَرَم خمسمائة نخلة وفرّق ثمرها كلّه ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله ، وأنّ الآية نزلت بسبب ذلك .

وقوله : { إنه لا يحب المسرفين } استئناف قصد به تعميم حكم النّهي عن الإسراف . وأكّد ب { إنّ } لزيادة تقرير الحكم ، فبيّن أنّ الإسراف من الأعمال التي لا يحبّها ، فهو من الأخلاق الّتي يلزم الانتهاء عنها ، ونفي المحبّة مختلف المراتب ، فيعلم أنّ نفي المحبّة يشتدّ بمقدار قوّة الإسراف ، وهذا حكم مجمل وهو ظاهر في التّحريم ، وبيان هذا الإجمال هو في مطاوي أدلّة أخرى والإجمال مقصود .

ولغموض تأويل هذا النّهي وقوله : { إنَّه لا يحبّ المسرفين } تفرّقت آراء المفسّرين في تفسير معنى الإسراف المنهي عنه ، ليعينوه في إسراف حرام ، حتّى قال بعضهم : إنَّها منسوخة ، وقد علمت المنجى من ذلك كلّه .

فوجه عدم محبّة الله إيّاهم أنّ الإفراط في تناول اللّذّات والطّيّبات ، والإكثار من بذل المال في تحصيلها ، يفضي غالباً إلى استنزاف الأموال والشّره إلى الاستكثار منها ، فإذا ضاقت على المسرف أمواله تطلب تحصيل المال من وجوه فاسدة ، ليخمد بذلك نهمته إلى اللّذات ، فيكون ذلك دأبه ، فربَّما ضاق عليه ماله ، فشقّ عليه الإقلاع عن معتاده ، فعاش في كرب وضيق ، وربَّما تطلّب المال من وجوه غير مشروعة ، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدّنيا أو في الآخرة ، ثمّ إنّ ذلك قد يعقب عياله خصاصة وضنك معيشة . وينشأ عن ذلك مَلام وتوبيخ وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة . فأمَّا كثرة الإنفاق في وجوه البرّ فإنَّها لا توقع في مثل هذا ، لأنّ المنفق لا يبلغ فيها مبلغ المنفق لمحبّة لَذّاته ، لأنّ داعي الحكمة قابل للتأمّل والتّحديد بخلاف داعي الشّهوة . ولذلك قيل في الكلام الّذي يصحّ طَرْداً وعكساً : « لاَ خَيْرَ في السَّرف ، ولا سرف في الخير » وفي معنى هذه الآية قوله في سورة الأعراف ( 31 ) : { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [ الأعراف : 31 ] وقول النَّبيء صلى الله عليه وسلم " ويُكره لكم قيل وقال وكثرة السُّؤال وإضاعة المال " .