ثم قال تعالى مخبرًا عباده المؤمنين ومُبشِّرًا لهم أن النصر والظَّفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين ، فقال : { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } وهكذا وقع ، فإنهم يوم خَيْبَر أذلّهم الله وأرْغَم آنافهم{[5563]} وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قَيْنُقَاع وبني النَّضِير وبني قُرَيْظَة{[5564]} كلهم أذلهم الله ، وكذلك النصارى بالشام كَسَرهم الصحابة في غير ما موطن ، وسَلَبوهم مُلْك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين ، ولا تزال عِصَابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم [ عليه السلام ]{[5565]} وهم كذلك ، ويحكم ، عليه السلام{[5566]} بشرع محمد{[5567]} عليه أفضل الصلاة والسلام{[5568]} فيَكْسر الصَّلِيب ، ويقتل الخنزير ، ويَضَع الجزْية ، ولا يقبل إلا الإسلام .
قوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } معناه : لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال ، وإنما هو أذى بالألسنة ، فالاستثناء متصل ، وقال الحسن ، وقتادة وغيرهما : «الأذى » هو تحريفهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم إياه .
قال القاضي أبو محمد : وتنقصهم المؤمنين وطعنهم عليهم جملة وأفراداً ، وهذا كله عظيم مقلق وبسببه استحقوا القتل والإجلاء ، وضرب الجزية ، لكن أراد الله تعالى بهذه الآية أن يلحظهم المؤمنون بعين الاحتقار حتى لا يصدوا أحداً عن دينه ولا يشغلوه عن عبادة ربه ، وهكذا هي فصاحة العرب ، ومن هذا المعنى في التحقير قول ثمامة بن أثال{[3424]} : يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن شئت المال فاسأل منه ما شئت ، فقوله : ذا دم ، روي بالذال منقوطة ، وبالدال غير منقوطة ، فذم بفتح الذال وبكسرها أراد بها الذمام ، وأما الدال غير المنقوطة ، فيحتمل أنه أرد التعظيم لأمر نفسه ، وذلك بأحد وجهين : إما أن يريد الوعيد ، أي تقتل ذا دم مطلوب بثأره له حماة فاحذر عاقبة ذلك ، وإما أن يريد تقتل ملكاً يستشفى بدمه ، كما كانت العرب تعتقد في دماء الملوك ، فهذا استعطاف لا وعيد ، أي لا ينبغي ذلك أن تفسد مثلي ، وهذا كما استعطف الأشعث بن قيس أبا بكر رضي الله عنه بهذا المعنى ، ويحتمل كلام ثمامة ، أنه أراد تحقير أمر نفسه وليذهب عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسرة بنيل مثل هذا الأمر العظيم ، ويجري ذلك مجرى قول أبي جهل لعبد الله بن مسعود : وهل أعمد{[3425]} من رجل قتلتموه ؟ ومثله قول الأسير لعمر بن عبد العزيز ، حين قال له : لأقتلنك ، قال إن ذلك لا ينقص من عدد الخزر{[3426]} شيئاً فكأن ثمامة أراد : إن تقتلني تقتل حيواناً حقيراً شأنه ، كما يقتل كل ذي دم فما بالك تفعل ذلك وتدع الإنعام عليّ ؟ فالآية تنظر إلى هذا المعنى من جهة أنه حقر عند المؤمنين ما هو عظيم في نفسه تنبيهاً لهم ، وأخبر الله تعالى في قوله : { وإن يقاتلوكم } الآية ، بخبر غيب صححه الوجود ، فهي من آيات محمد صلى الله عليه وسلم ، وفائدة الخبر هي في قوله : { ثم لا ينصرون } أي لا تكون حربهم معكم سجالاً{[3427]} وخص { الأدبار } بالذكر دون الظهر تخسيساً للفارّ ، وهكذا هو حيث تصرف .
قوله : { ضربت } معناه : أثبتت بشدة والتزام مؤكد ، وهذا وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام ، قال الحسن : جاء الإسلام وإن المجوس لتجبيهم{[3428]} الجزية ، وما كانت لهم عزة ومنعة إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض فأزالها الله بالإسلام ، ولم تبق لهم راية أصلاً في الأرض ، و { الذلة } فعلة من الذل { ثقفوا } معناه أخذوا وهم بحال المذنب المستحق الإهلاك ، ومنه قوله تعالى : { فإما تثقفنهم في الحرب }{[3429]} { فاقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم }{[3430]} واللفظة مأخوذة من الثقاف ، ومنه قول الشاعر :
تدعو ثقيفاً وَقَدْ عَضَّ الحديدُ بها . . . عضَّ الثّقافِ على صُمّ الأنابيبِ{[3431]}
وقوله تعالى : { إلا بحبل } استثناء منقطع ، وهو نظير قوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً }{[3432]} لأن بادي الرأي يعطي أن له أن يقتل خطئاً ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك ، وإنما الكلام محذوف ، يدركه فهم السامع الناظر في الأمر ، وتقديره في آياتنا فلا نجاة من الموت { إلا بحبل } .
استئناف نشأ عن قوله { وأكثرهم الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] لأن الإخبار عن أكثرهم بأنَّهم غير مؤمنين يؤذن بمعادَاتهم للمؤمنين ، وذلك من شأنه أن يوقع في نفوس المسلمين خشية من بأسهم ، وهذا يختصّ باليهود ، فإنَّهم كانوا منتشرين حيال المدينة في خيبر ، والنضير ، وقينقاع ، وقريظة ، وكانوا أهل مكر ، وقوة ، ومال ، عُدّة ، والمسلمون يومئذٍ في قلّة فطمأن الله المسلمين بأنَّهم لا يخشون بأس أهل الكتاب ، ولا يخشون ضُرّهم ، لكن أذاهُم .
أمَّا النصّارى فلا ملابسة بينهم وبين المسلمين حتَّى يخشوهم . والأذى هو الألم الخفيف وهو لا يبلغ حد الضرّ الَّذي هو الألم ، وقد قيل : هو الضرّ بالقول ، فيكون كقول إسحاق بن خلف :
أخشىَ فَظاظة عمّ أو جَفاء أخٍ *** وكُنتُ أبقى عليها من أذى الكَلِم
ومعنى { يولّوكم الأدبار } يفرّون منهزمين .
وقوله { ثم لا ينصرون } احتراس أي يولوكم الأدبار تولية منهزمين لا تولية متحرّفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة ، أو متأمّلين في الأمر . وفي العدول عن جعله معطوفاً على جملة الجواب إلى جعله معطوفاً على جملتي الشرط وجزائه معاً ، إشارة إلى أنّ هذا ديدنهم وهجيراهم . لو قاتلوكم ، وكذلك في قتالهم غيركم .
وثمّ لترتيب الإخبار دالّة على تراخي الرتبة . ومعنى تراخي الرتبة كون رتبة معطوفها أعظم من رتبة المعطوف عليه في الغرض المسوق له الكلام . وهو غير التّراخي المجازي ، لأن التّراخي المجازي أن يشبَّه ما ليس بمتأخّر عن المعطوف بالمتأخّر عنه .
وهذا كلّه وعيد لهم بأنهم سيقاتلون المسلمين ، وأنّهم ينهزمون ، وإغراء للمسلمين بقتالهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.