اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَن يَضُرُّوكُمۡ إِلَّآ أَذٗىۖ وَإِن يُقَٰتِلُوكُمۡ يُوَلُّوكُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} (111)

لمَّا رغَّب المسلمين في تَرْك الالتفات إلى أقوال الكُفَّار وأفعالهم بقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [ آل عمران : 110 ] ، رغَّبهم - أيضاً - من وَجْه آخر ، وهو أنه لا قُدْرَةَ لهم على إضرار المسلمين ، إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به ، ولو أنهم قاتلوا المسلمين لانهزمت الكفار ، فلذلك لا يلتفت إلى أقوالهم وأفعالهم .

قال مقاتل : إن رؤوس اليهود عمدوا إلى مَنْ آمن منهم - عبد الله بن سلام وأصحابه - فآذَوْهم ، فنزلت هذه الآية {[5803]} .

قوله : { إِلاَّ أَذًى } فيه وجهان :

أحدهما : أنه متصل ، وهو استثناء مفرَّغ من المصدر العام ، كأنه قيل : لن يضروكم ضرراً ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به - من كلمة سوء ونحوها - إمَّا بالطعن في محمد وعيسى - عليهما السلام - وَإمَّا بإظهار كلمة الكفر - كقولهم : عيسى ابنُ الله ، وعُزَيْر ابن الله ، وإن الله ثالث ثلاثة ، وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل ، وإما بتخويف ضعفةِ المسلمين .

الثاني : أنه منقطع ، أي : لن يضروكم بقتال وغَلَبَة ، لكن بكلمة أذًى ونحوها .

قال بعض العلماء : وهذا بعيد ، لأن الوجوه المذكورة توجب وقوع الغَمِّ في قلوب المسلمين ، والغم ضرر . فالتقدير : لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى ، فهو استثناء صحيح ، والمعنى : لا يضروكم إلا ضَرَراً يَسِيراً .

قوله : { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ } هذا إخْبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لانهزموا ، وخُذلوا ، { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } أي : إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ، ولا قوة - ألبتة - ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ } [ الحشر : 12 ] ، وقوله : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عمران : 12 ] ، وقوله : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر : 44-45 ] ، وكل ذلك وَعْد بالفتح ، والنصر ، والظفر ، وهذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة .

منها : أن المؤمنين آمنون من ضررهم .

ومنها : أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا .

ومنها : أنه لا يحصل لهم شوكة بعد الانهزام .

وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها ، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا ، وما أقدموا على محاربة ، وطلب رئاسة إلا خُذِلوا ، وكل ذلك إخبار عن الغيب ، فيكون معجزاً .

فإن قيل : هَبْ أن اليهودَ كذلك ، لكن النصارى ليسوا كذلك ، وهذا يقدح في صحة هذه الآيات .

فالجواب : أنها مخصوصة باليهود ، لما رُوِيَ في سبب النزول .

وقوله : { ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ } كلام مستأنف .

فإن قيل : لِمَ كان قوله : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } مستأنفاً ، ولم يُجْزَم ، عطفاً على جواب الشرط ؟

فالجواب : أنه لو جُزِم لتغيَّر المعنى ؛ لأن الله - تعالى - أخبرهم بعدم نُصْرَتهم - مطلقاً - فلو عطفناه على جواب الشرط لزم تقييده بمقاتلتهم لنا ، بينما هم غير منصورين مطلقاً - قاتلوا ، أو لم يقاتلوا . وزعم بعضهم أن المعطوف على جواب الشرط ب " ثم " لا يجوز جزمه ألبتة ، قال : لأن المعطوف على الجواب جواب ، وجواب الشرط يقع بعده وعقيبه ، و " ثم " يقتضي التراخي ، فكيف يتصور وقوعه عقيب الشرط ؟ فلذلك لم يُجْزَم مع " ثم " .

وهذا فاسد جدًّا ؛ لقوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] ، ف " لا يكونوا " مجزوم نسقاً على " يستبدل " الواقع جواباً للشرط ، والعاطف " ثُمَّ " .

و " الأدبار " مفعول ثان لِ " يُوَلُّوكُمْ " ؛ لأنه تعدَّى بالتضعيف إلى مفعولٍ آخَرَ .

فإن قيل : ما الذي عطف عليه قوله : { لاَ يُنصَرُونَ } ؟

فالجواب : هو جملة الشرط والجزاء ، كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا يُنصرون . وإنما ذكر لفظ " ثُمَّ " ، لإفادة معنى التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار .


[5803]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (4/112) عن مقاتل.