وقال سعيد بن جبير : لما افتخر أهلُ الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله هذه الآية في حق هذه الأمة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } أي : ضعفين ، وزادهم : { وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } يعني : هدى يُتَبَصَّر به من العمى والجهالة ، ويغفر لكم . فضلهم بالنور والمغفرة . ورواه ابن جرير عنه .
وهذه الآية كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [ الأنفال : 29 ] .
وقال سعيد بن عبد العزيز : سأل عمر بن الخطاب حَبْرًا من أحبار يهود : كم أفضل ما ضعفت {[28334]} لكم حسنة ؟ قال : كفل ثلاثمائة وخمسون{[28335]} حسنة . قال : فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين . [ ثم ] {[28336]} ذكر سعيد قول الله ، عز وجل : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } قال سعيد : والكفلان في الجمعة مثل ذلك . رواه ابن جرير{[28337]}
ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت اليهود . ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت النصارى . ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ ألا فأنتم الذي عملتم . فغضبت النصارى واليهود ، وقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء . قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئا ؟ قالوا : لا . قال : فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء " {[28338]}
قال أحمد : وحدثناه مُؤَمَّل ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، نحو حديث نافع ، عنه {[28339]} انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه عن سليمان{[28340]} بن حرب ، عن حماد ، [ عن أيوب ]{[28341]} عن نافع ، به{[28342]} وعن قتيبة ، عن الليث ، عن نافع ، بمثله{[28343]}
وقال البخاري : حدثنى محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة ، عن بَريد{[28344]} عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملا يومًا إلى الليل على أجر معلوم ، فعملوا إلى نصف النهار فقالوا : لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا ، وما عملنا باطل . فقال لهم : لا تفعلوا ، أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتَرَكُوا ، واستأجر آخرين بعدهم فقال : أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر ، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا : ما عملنا باطل ، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه . فقال أكملوا بقية عملكم ؛ فإن ما بقي من النهار شيء يسير . فأبوا ، فاستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم ، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس ، فاستكملوا أجر الفريقين كليهما ، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور " انفرد به البخاري{[28345]}
ولهذا قال تعالى : { لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ }
وقوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله } اختلف الناس في المخاطب بهذا ، فقالت فرقة من المتأولين خوطب بهذا أهل الكتاب ، فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بعيسى اتقوا الله وآمنوا بمحمد ، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :
«ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي » ، الحديث{[10990]} وقال آخرون المخاطبة للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيل لهم { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله } ، أي اثبتوا على ذلك ودوموا عليه ، وهذا هو معنى الأمر أبداً لمن هو متلبس بما يؤمر به .
وقوله : { كفلين } أي نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه ، قال أبو موسى الأشعري : { كفلين } ضعفين بلسان الحبشة ، وروي أن عمر بن الخطاب قال لبعض الأحبار : كم كان التضعيف للحسنات فيكم ؟ فقال ثلاثمائة وخمسون ، فقال عمر : الحمد لله الذي ضاعف لنا إلى سبعمائة ، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح الذي يقتضي أن اليهود عملت إلى نصف النهار على قيراط ، والنصارى من الظهر إلى العصر على قيراط ، وهذه الأمة من العصر إلى الليل على قيراطين ، فلما احتجت اليهود والنصارى على ذلك وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل أجراً ، قال الله تعالى : «هل نقصتكم من أجركم شيئاً ؟ ، قالوا : لا ، قال : فإنه فضلي أوتيه من أشاء »{[10991]} . والكفل : الحظ والنصيب . والنور : هنا إما أن يكون وعداً بالنور الذي يسعى بين الأيدي يوم القيامة ، وإما أن يكون استعارة للهدى الذي يمشي به في طاعة الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} يعني وحدوا الله {وآمنوا برسوله} يقول: صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي رسول {يؤتكم كفلين} يعني أجرين {من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به} يعني تمرون به على الصراط إلى الجنة نورا تهتدون به {ويغفر لكم} ذنوبكم {والله غفور} لذنوب المؤمنين {رحيم} بهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، خافوا الله بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله:"يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ": يُعطكم ضعفين من الأجر لإيمانكم بعيسى صلى الله عليه وسلم، والأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم حين بعث نبيا، وأصل الكِفل: الحظّ، وأصله: ما يكتفل به الراكبُ، فيحبسه ويحفظه عن السقوط، يقول: يُحَصّنكم هذا الكِفْل من العذاب، كما يُحَصّن الكِفْل الراكب من السقوط.
وقوله: "ويَجْعَلْ لَكُم نُورا تَمْشُونَ بِهِ "اختلف أهل التأويل في الذي عنى به النور في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: عنى به القرآن...
وقال آخرون: عُنِي بالنور في هذا الموضع: الهدى...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره وعد هؤلاء القوم أن يجعل لهم نورا يمشون به، والقرآن، مع اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم نور لمن آمن بهما وصدّقهما وهدى، لأن من آمن بذلك، فقد اهتدى.
وقوله: "وَيَغْفِرْ لَكُمْ" يقول: ويصفح لكم عن ذنوبكم فيسترها عليكم. "وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" يقول تعالى ذكره: والله ذو مغفرة ورحمة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {ويجعل لكم نورا تمشون به} هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: النور كناية عما يبصر به، ويتضح، والمشي كناية عن الأمور؛ يقول، والله أعلم: يجعل ما تبصرون به السبيل، وتتضح لكم الأمور، وتزول عنكم الشبه، فيكون المشي كناية عن الأمور، والنور كناية عن البصر...
والثاني: على حقيقة إرادة المشي وحقيقة النور؛ وذلك يكون في الآخرة...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
وفي قوله: {تمشون به} إعلام بأن تصرفهم، وتقلبهم الذي ينفعهم: إنما هو بالنور، وأن مشيهم بغير النور غير مجد عليهم. ولا نافع لهم، بل ضرره أكثر من نفعه.
وفيه: أن أهل النور هم أهل المشي في الناس، ومن سواهم أهل الزمانة والانقطاع. فلا مشي لقلوبهم، ولا لأحوالهم، ولا لأقوالهم، ولا لأقدامهم إلى الطاعات. وكذلك لا تمشي على الصراط إذا مشت بأهل الأنوار أقدامهم.
وفي قوله: {تمشون به} نكتة بديعة، وهي: أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم، كما يمشون بها بين الناس في الدنيا. ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدما عن قدم على الصراط فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{اتقوا الله} أي خافوا عقابه فاجعلوا بينكم وبين سخطه -لأنه الملك الأعظم- وقاية بحفظ الأدب معه ولا تأمنوا مكره، فكونوا على حذر من أن يسلبكم ما وهبكم، فاتبعوا الرسول تسلموا، وحافظوا على اتباعه لئلا تهلكوا..
{وآمنوا برسوله} أي الذي لا رسول له الآن غيره، إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بالله فإنه لا يصح الإيمان به إلا مع الإيمان برسوله،..
ولما كان الإنسان لا يخلو من نقصان، فلا يبلغ جميع ما يحق للرحمن، قال: {ويغفر لكم} أي ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجد. ولما قرر سبحانه وذلك، أتبعه التعريف بأن الغفران وما يتبعه صفة له شاملة لمن يريده فقال: {والله} أي المحيط بجميع صفات الكمال والعظمة والكبرياء {غفور} أي بليغ المحو للذنب عيناً وأثراً {رحيم} أي بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد هذا العرض السريع يجيء الهتاف الأخير للذين آمنوا، وهم الحلقة الأخيرة في سلسلة المؤمنين برسالة الله في تاريخها الطويل؛ وورثة هذه الرسالة الذين يقومون عليها إلى يوم الدين:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته، ويجعل لكم نورا تمشون به، ويغفر لكم، والله غفور رحيم. لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم)..
ونداؤهم على هذا النحو: يا أيها الذين آمنوا فيه لمسة خاصة لقلوبهم، واستحياء لمعنى الإيمان، وتذكير برعايته حق رعايته؛ واستجاشة للصلة التي تربطهم بربهم الذي يناديهم هذا النداء الكريم الحبيب. وباسم هذه الصلة يدعوهم إلى تقوى الله والإيمان برسوله. فيبدو للإيمان المطلوب معنى خاص.. معنى حقيقة الإيمان وما ينبثق عنها من آثار.
اتقوا الله وآمنوا برسوله.. (يؤتكم كفلين من رحمته).. أي يعطكم نصيبين من رحمته وهو تعبير عجيب. فرحمة الله لا تتجزأ، ومجرد مسها لإنسان يمنحه حقيقتها. ولكن في هذا التعبير زيادة امتداد للرحمة وزيادة فيض..
(ويجعل لكم نورا تمشون به). وهي هبة لدنية يودعها الله القلوب التي تستشعر تقواه، وتؤمن حق الإيمان برسوله. هبة تنير تلك القلوب فتشرق، وترى الحقيقة من وراء الحجب والحواجز، ومن وراء الأشكال والمظاهر؛ فلا تتخبط، ولا تلتوي بها الطريق.. (نورا تمشون به)..
(ويغفر لكم. والله غفور رحيم)... فالإنسان إنسان مهما وهب من النور. إنسان يقصر حتى لو عرف الطريق. إنسان يحتاج إلى المغفرة فتدركه رحمة الله.. (والله غفور رحيم)..
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله). لتنالوا كفلين من رحمة الله. ويكون لكم ذلك النور تمشون به. وتدرككم رحمة الله بالمغفرة من الذنب والتقصير..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
احتمل قوله: {يا أيها الذين آمنوا} أن يكون مستعملاً استعماله اللَّقبي أعني: كونه كالعلَم بالغلبة على مؤمني ملّة الإسلام. واحتمل أن يكون قد استُعمل استعمالَه اللُّغوي الأعَمَّ، أعني: من حصل منه إيمان، وهو هنا من آمن بعيسى. والأظهر أن هذين الاحتمالين مقصودَان ليأخذ خُلص النصارى من هذا الكلام حظهم وهو دعوتهم إلى الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ليستكملوا ما سبق من اتباعهم عيسى فيكون الخطاب موجهاً إلى الموجودين ممن آمنوا بعيسى، أي يا أيها الذين آمنوا إيماناً خالصاً بشريعة عيسى اتقوا الله واخشَوْا عقابه واتركوا العصبية والحسد وسوء النظر وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأما احتمال أن يراد بالذين آمنوا الإِطلاق اللقبي فيأخذَ منه المؤمنون من أهل الملة الإِسلامية بشارةً بأنهم لا يقلّ أجرهم عن أجر مؤمني أهل الكتاب لأنهم لما آمنوا بالرسل السابقين أعطاهم الله أجر مؤمني أهل مِللهم..ويكون إقحام الأمر بالتقوى في هذا الاحتمالِ قصداً لأن يحصل في الكلام أمر بشيء يتجدد ثم يُردفَ عليه أمر يفهم منه أن المراد به طلب الدوام وهذا من بديع نظم القرآن. ويتعلق {من رحمته} ب {يؤتكم}، و (من) ابتدائية مجازياً، أي ذلك من رحمة الله بكم..ويجوز أن يكون {من رحمته} صفةً ل {كفلين} وتكون (من) بيانية، والكلام على حذف مضاف، تقديره: من أثر رحمته، وهو ثواب الجنة ونعيمها.
وقوله: {ويجعل لكم نوراً تمشون به} تمثيل لحالة القوم الطالبين التحصيل على رضى الله تعالى والفوز بالنعيم الخائفين من الوقوع في ضد ذلك بحالة قوم يمشون في طريق بليل يخشون الخطأ فيه فيعطون نوراً يتبصرون بالثنايا فيأمنون الضلال فيه. والمعنى: ويجعل لكم حالة كحالة نور تمشون به...