اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِۦ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (28)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ } .

أي : آمنوا بموسى وعيسى { اتقوا الله وَآمِنُواْ } بمحمد صلى الله عليه وسلم { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } ، أي : مثلين من الأجْر على إيمانهم بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ وهذا نظير قوله تعالى : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [ القصص : 54 ] .

و«الكِفْلُ » : الحظّ والنصيب{[55531]} .

وقد تقدم ، وهو في الأصل كساء يكتفلُ به الراكب يحفظه من السقوط . قاله ابن جرير{[55532]} .

وقال الأزهري{[55533]} : اشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط ، والمعنى : يؤتكم نَصِيبيْنِ يحفظانكم من هلكةِ المعاصي كما يحفظ الكفلُ الراكب .

وقال أبو موسى الأشعري : «كِفْلَيْن » ضِعْفَيْن ، بلسان «الحبشة » .

وقال ابن زيد : «كِفْلين » أجر الدنيا والآخرة{[55534]} .

وقيل : لما نزلت : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية .

فإن قيل : إنه - تعالى - لما أعطاهم كِفْلَيْنِ ، وأعطى المؤمن كفلاً واحداً كان حالهم أعظم .

فالجواب{[55535]} : أنه لا يبعد أن يكون النَّصيب الواحد أزيد قدراً من النصيبين .

روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ثَلاثَةٌ يُؤتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ : رجُلٌ كانَتْ لَهُ جَاريةٌ فأدَّبهَا وأحْسَنَ أدبهَا ، ثُمَّ أعتَقَهَا وتَزوَّجَهَا ، ورجُلٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمَنَ بِكِتَابِهِ ، وآمَنَ بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وعبدٌ أحْسَنَ عبادةَ اللَّهِ ونَصَحَ سَيِّدَهُ »{[55536]} .

قوله : { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً } .

قال مجاهد : أي : بياناً وهدى{[55537]} .

وقال ابن عباس : هو القرآن{[55538]} .

وقيل : ضياء يمشون به في الآخرة على الصراط ، وفي القيامة إلى الجنة ، وهو النور المذكور في قوله تعالى { يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } .

وقيل{[55539]} : تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام ، فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها ، وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى ، لا الرِّياسة الحقيقية في الدين ثم قال : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } ، أي : ما أسلفتم من المعاصي ، { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .


[55531]:ينظر: تفسير القرطبي (17/172).
[55532]:جامع البيان 11/693.
[55533]:تهذيب اللغة 10/250 (كفل).
[55534]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/694).
[55535]:ينظر: الفخر الرازي 29/215.
[55536]:أخرجه البخاري 1/229 كتاب العلم، باب: تعليم الرجل أمته (97) وفي 5/205 كتاب العتق باب: فضل من أدب جاريته وعلمها (2544)، وفي 5/207 باب العبد إذا أحسن عبادة ربه (2547)، وفي 5/210 باب كراهية التطاول على الرقيق (2551)، وفي 6/169 كتاب الجهاد، باب: فضل من أسلم (3011)، وفي 6/551 كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا} (3446) وفي 9/29 كتاب النكاح، باب: اتخذا السراري (5083)، ومسلم 1/134 - 135 كتاب الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم (241/154).
[55537]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/260) وعزاه إلى عبد بن حميد عن مجاهد.
[55538]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/696) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/260) وعزاه إلى عبد بن حميد.
[55539]:ينظر: القرطبي 17/173.