تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِۦ يُؤۡتِكُمۡ كِفۡلَيۡنِ مِن رَّحۡمَتِهِۦ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ نُورٗا تَمۡشُونَ بِهِۦ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (28)

الآية 28 وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله } يقول بعض أهل التأويل : يا أيها الذين آمنوا بعيسى عليه السلام / 552 – ب / ابن مريم : آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكن هذا ضعيف ، لأن الإيمان برسول من{[20712]} الرسل إيمان بجميع الرسل عليهم السلام .

وتأويل الآية : { يا أيها الذين آمنوا } بالرسل جملة على غير الإشارة . والتفسير آمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم على الإشارة به ، لأن الإيمان بالرسل على غير الإشارة أمر سهل ، وإنما يصعب الإيمان به ، ويشتد بالإشارة إلى واحد لأنه لما آمن بالمشار إليه لزمه اتباع أمره ونهيه ، ويلزمه موالاة من والاه ، واتبعه ، ويلزمه معاداة من عاداه ، وخالفه في أمره ونهيه وترك اتباعه ، وإن كان له ابنا أو أبا أو جدا ، وكان يجب أن يكون أحب الناس إليه وأقربه{[20713]} وأبره .

فهذه معاملة الرسول الذي آمن به على الإشارة إليه ، وإنها تشتد ، وتصعب . وأما عند الإجمال والإرسال فأمر سهل ، إنما فيه تصديق كل صادق وتكذيب كل كاذب . وكل الناس قد اعتقدوا في الأصل تصديق الصادق وتكذيب الكاذب وليس في الإجمال والإرسال إلا ذلك .

وأما عند التعيين فيوجب الامتحان ، وبه يظهر نفاق المنافقين وتحقيق المؤمنين المحققين . وذلك قوله تعالى : { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم } { ولو نشاء لأريناكهم } [ محمد : 29 و 30 ] ظهر نفاقهم لما أمروا بالجهاد والخروج معه على الإشارة إليه ، وقوله{[20714]} تعالى : { * ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } { فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون }[ التوبة 75 و 76 ] وقد وعدوا في الجملة أنه لو أعطاهم كذا من فضله { لنصدقن } ، فلما أوتوا ذلك ، وأمروا بإخراجه أبوا إخراج ذلك عند الإشارة إليه .

فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : { يا أيها الذين آمنوا } بالرسل جملة آمنوا بهذا الرسول المشار إليه لما يصعب الأمر ولما يلزم في ذلك معاداة من خالفه ، وترك اتباعه ، وإن كان أقرب الخلائق إليه .

وكذلك عامل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاربهم وأرحامهم لما آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصار عندهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من أنفسهم وآبائهم وأولادهم ، وعادوا جميع أقاربهم الذين خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا اتباعه .

وفي ذلك آية عظيمة ، ولذلك فضل إيمان من آمن في أول خروجه على إيمان من تأخر منهم عن ذلك الوقت ، ولا قوة إلا بالله .

وقوله تعالى : { يؤتكم كفلين من رحمته } قوله : { يؤتكم } أي يوجب لكم { كفلين من رحمته } أي أجرين أجر الإيمان بالرسل كلهم على الإجمال وأجر الإيمان بالرسل على الإشارة والتفصيل .

ذكر ههنا { كفلين من رحمته } وقال في آية أخرى : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } [ القصص : 54 ] .

ويحتمل قوله : { كفلين } مرتين ، وقوله : { مرتين } ، كفلين ، فيكون أحدهما تفسيرا للآخر .

ثم ذكر ههنا الأجر لهم من رحمته ، وذكر هنالك الأجر مطلقا ليعلم أن ما ذكر لأعمالهم من الأجر ، إنما هو فضل منه ورحمة لا استحقاق{[20715]} على ما ذكرنا ، والله الموفق .

ثم يحتمل ما ذكر من الأجر مرتين : يكون مرة في الدنيا وأخرى{[20716]} في الآخرة ، كقوله تعالى : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير } الآية [ النحل : 30 ] أي{[20717]} لهم في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، والله أعلم .

ويحتمل أن يكون ما ذكر من الأجر مرتين وعدا{[20718]} في الآخرة ، ويكون قوله : { مرتين } أي كفلين أي ضعفين كقوله : { يضاعف لهم ولهم أجر كريم } [ الحديد : 18 ] .

ثم قوله : { كفلين } قال أكثر أهل التأويل : أي أجرين . وقال بعضهم : حظين ونصيبين .

وجائز أن يكون سماه كفلا لأنه كفله . ألا ترى أن ذا الكفل ذكر أنه{[20719]} سمي به لأنه كان يكفل لفلان ؟ فعلى ذلك جائز تسمية هذا كفلا لأنه يكفل به ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ويجعل لكم نورا تمشون به } هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : النور كناية عما يبصر به ، ويتضح ، والمشي كناية عن الأمور ؛ يقول ، والله أعلم : يجعل ما تبصرون به السبيل ، وتتضح لكم الأمور ، وتزول عنكم الشبه ، فيكون المشي كناية عن الأمور ، والنور كناية عن البصر . وهو كقوله تعالى : { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات } [ الأنعام : 122 ] أي لا سواء ، وهو كناية عما ذكرنا ، ليس بتصريح .

والثاني : على حقيقة إرادة المشي وحقيقة النور ؛ وذلك يكون في الآخرة ، كقوله تعالى : { والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } الآية [ التحريم : 8 ] .

وقال أهل التأويل : النور ههنا القرآن ، أي أعطاكم قرآنا يفضي بكم إلى سبيل الخير ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ويغفر لكم } الغفران من الستر ، كأنه يقول : يستر عليكم مساوئكم بينكم ، لأن ذكر المساوئ ينغصهم النعم ، ويحملهم على الحياء من ربهم .


[20712]:من م، في الأصل: الله.
[20713]:في الأصل و م: و أقرب.
[20714]:في الأصل و م: و كقوله.
[20715]:في الأصل و م استحقاقا.
[20716]:في الأصل و م: و الأخرى.
[20717]:في الأصل و م: و قوله.
[20718]:أدرج قبلها في الأصل و م: يكون.
[20719]:في الأصل و م: أنما.