تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَيۡنَكَ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا} (45)

يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : وإذا قرأت - يا محمد - على هؤلاء المشركين القرآن ، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورًا .

قال قتادة ، وابن زيد : هو الأكنّة على قلوبهم ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] أي : مانع حائل{[17560]} أن يصل إلينا مما تقول شيء .

وقوله : { حِجَابًا مَسْتُورًا } أي : بمعنى ساتر ، كميمون ومشئوم ، بمعنى : يامن وشائم ؛ لأنه من يَمنهم وشَأمَهم .

وقيل : مستورًا عن الأبصار فلا تراه ، وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى ، ومال إلى ترجيحه ابن جرير ، رحمه الله .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو موسى الهروي إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا سفيان ، عن الوليد بن كثير ، عن يزيد بن تدرس ، عن أسماء بنت أبي بكر [ الصديق ]{[17561]} رضي الله عنها{[17562]} ، قالت : لما نزلت { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتبٍٍَ } [ سورة المسد ] جاءت العوراء أم جميل ولها ولوَلة ، وفي يدها فِهْر وهي تقول : مُدَمَّما أتينا - أو : أبينا ، قال أبو موسى : الشك مني - ودينه قَلَيْنَا ، وأمره عصينا . ورسول الله جالس ، وأبو بكر إلى جنبه - أو قال : معه - قال : فقال أبو بكر : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك ، فقال : " إنها لن تراني " ، وقرأ قرآنا اعتصم به منها : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } . قال : فجاءت حتى قامت على أبي بكر ، فلم تر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك هجاني . فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك . قال : فانصرفت وهي تقول : لقد{[17563]} علمت قريش أني بنت سيدها{[17564]} .


[17560]:في ف: "مانع وحائل".
[17561]:زيادة من ت.
[17562]:في ف، أ: "عنهما".
[17563]:في ف: "قد".
[17564]:مسند أبي يعلى (1/53) وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (7/169).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَيۡنَكَ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا} (45)

{ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً } يجبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم . { مستوراً } ذا ستر كقوله تعالى : { وعده مأتيا } وقولهم سيل مفعم ، أو مستورا عن الحس ، أو بحجاب آخر لا يفهمون ولا يفهمون أنهم لا يفهمون نفي عنهم أن يفهموا ما أنزل عليهم من الآيات بعدما نفى عنهم التفقه للدلالات المنصوبة في الأنفس والآفاق تقريرا له وبيانا لكونهم مطبوعين على الضلالة كما صرح به بقوله :

{ وجعلنا على قلوبهم أكنّة } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَيۡنَكَ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا} (45)

عطف جملة على جملة وقصة على قصة ، فإنه لما نوّه بالقرآن في قوله : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ] ، ثم أعقب بما اقتضاه السياق من الإشارة إلى ما جاء به القرآن من أصول العقيدة وجوامع الأعمال وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر عاد هنا إلى التنبيه على عدم انتفاع المشركين بهدي القرآن لمناسبة الإخبار عن عدم فقههم دلالةَ الكائنات على تنزيه الله تعالى عن النقائص ، وتنبيهاً للمشركين على وجوب إقلاعهم عن بعثتهم وعنادهم ، وتأميناً للنبيء من مكرهم به وإضمارهم إضراره ، وقد كانت قراءته القرآن تغيظهم وتثير في نفوسهم الانتقام .

وحقيقة الحجاب : الساتر الذي يحجب البصر عن رؤية ما وراءه . وهو هنا مستعار للصرفة التي يصرف الله بها أعداء النبي عليه الصلاة والسلام عن الإضرار به للإعراض الذي يعرضون به عن استماع القرآن وفهمه . وجعل الله الحجاب المذكور إيجادَ ذلك الصارف في نفوسهم بحيث يهمون ولا يفعلون ، وذلك من خور الإرادة والعزيمة بحيث يخطر الخاطر في نفوسهم ثم لا يصممون ، وتخطر معاني القرآن في أسماعهم ثم لا يتفهمون . وذلك خلق يسري إلى النفوس تديجياً تغرسه في النفوس بادىءَ الأمر شهوةُ الإعراض وكراهية المسموع منه ثم لا يلبث أن يصير ملكة في النفس لا تقدر على خلعه ولا تغييره .

وإطلاق الحجاب على ما يصلح للمعنيين إما للحمل على حقيقة اللفظ ، وإما للحمل على ما له نظير في القرآن . وقد جاء في الآية الأخرى { ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] .

ولما كان إنكارهم البعث هو الأصل الذي استبعدوا به دعوة النبي حتى زعموا أنه يقول محالاً إذ يخبر بإعادة الخلق بعد الموت { وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزّقتم كل ممزق إنكم لفي خَلْق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة } [ سبأ : 7 - 8 ] استحضروا في هذا الكلام بطريق الموصولة لما في الصلة من الإيماء إلى علة جَعل ذلك الحجاب بينه وبينهم فلذلك قال : وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة } .

ووصف الحجاب بالمستور مبالغة في حقيقة جنسه ، أي حجاباً بالغاً الغاية في حجب ما يحجبه هو حتى كأنه مستور بساتر آخر ، فذلك في قوة أن يقال : جعلنا حجاباً فوق حجاب . ونظيره قوله تعالى : { ويقولون حجراً محجورا } [ الفرقان : 22 ] .

أو أريد أنه حجاب من غير جنس الحجب المعروفة فهو حجاب لا تراه الأعين ولكنها ترى آثار أمثاله . وقد ثبت في أخبار كثيرة أن نفراً هموا الإضرار بالنبي فما منهم إلا وقد حدَث له ما حال بينه وبين همه وكفى الله نبيئه شرهم ، قال تعالى : { فسيكفيكهم الله } [ البقرة : 137 ] وهي معروفة في أخبار السيرة .

وفي الجمع بين { حجاباً } و { مستوراً } من البديع الطباقُ .