الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَيۡنَكَ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا} (45)

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت : لما نزلت سورة " تبت يدا أبي لهب{[10257]} " أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فِهر{[10258]} وهي تقول :

مُذَمَّمًا عصينا *** وأمره أبينا *** ودينه قَلَيْنَا{[10259]}

والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه ، فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول الله ، لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنها لن تراني ) وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال . وقرأ " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا " . فوقفت على أبي بكر رضي الله عنه ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا أبا بكر ، أخبرت أن صاحبك هجاني ! فقال : لا ورب هذا البيت ما هجاك . قال : فولت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها . وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه : لما نزلت " تبت يدا أبي لهب وتب " [ المسد : 1 ] جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه ، فقال أبو بكر : لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك ، فإنها امرأة بذيّة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه سيحال بيني وبينها ) فلم تره . فقالت لأبي بكر : يا أبا بكر ، هجانا صاحبك ! فقال : والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله . فقالت : وإنك لمصدقه ، فاندفعت راجعة . فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ، أما رأتك ؟ قال : ( لا ما زال ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت ) . وقال كعب رضي الله عنه في هذه الآية : كان النبي صلى الله عليه وسلم يستتر من المشركين بثلاث آيات : الآية التي في الكهف " إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا{[10260]} " ، [ الكهف : 57 ] ، والآية في النحل " أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم{[10261]} " [ النحل : 108 ] ، والآية التي في الجاثية{[10262]} " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة{[10263]} " [ الجاثية : 23 ] الآية . فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأهن يستتر من المشركين . قال كعب رضي الله تعالى عنه : فحدثت بهن رجلا من أهل الشام ، فأتى أرض الروم فأقام بها زمانا ، ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن فصاروا يكونون معه على طريقه ولا يبصرونه . قال الثعلبي{[10264]} : وهذا الذي يروونه عن كعب حدثت به رجلا من أهل الري فأسر بالديلم ، فمكث زمانا ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن حتى جعلت ثيابهن لتلمس ثيابه فما يبصرونه .

قلت : ويزاد إلى هذه الآية أول سورة يس إلى قوله " فهم لا يبصرون{[10265]} " . فإن في السيرة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومقام علي رضي الله عنه في فراشه قال : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده ، وأخذ الله عز وجل على أبصارهم عنه فلا يرونه ، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس : " يس . والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم . تنزيل العزيز الرحيم - إلى قوله - وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " [ يس : 6 ] . حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات ، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا ، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب .

قلت : ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور{[10266]} من أعمال قرطبة مثل هذا . وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه ، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء ، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن ، فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا ، وأحدهما يقول للآخر : هذا دِيبْلَه{[10267]} ، يعنون شيطانا . وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني ، والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك . وقيل : الحجاب المستور طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه ولا يدركوا ما فيه من الحكمة ، قاله قتادة . وقال الحسن : أي أنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب في عدم رؤيته لك حتى كأن على قلوبهم أغطية . وقيل : نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن ، وهم أبو جهل وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأم جميل امرأة أبي لهب وحويطب ، فحجب الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أبصارهم عند قراءة القرآن ، وكانوا يمرون به ولا يرونه ، قاله الزجاج وغيره . وهو معنى القول الأول بعينه ، وهو الأظهر في الآية ، والله أعلم . وقوله : " مستورا " فيه قولان : أحدهما - أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه . والثاني : أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه ، ويكون مستورا به بمعنى ساتر .


[10257]:راجع ج 20 ص 234.
[10258]:الفهر (بالكسر): الحجر ملء الكف. وقيل: هو الحجر مطلقا.
[10259]:هذا ما ورد في سيرة ابن هشام. والذي في نسخ الأصل: مذمما أتينا *** ودينه قلينا
[10260]:راجع ج 11 ص 4 فما بعد.
[10261]:راجع ص 191 من هذا الجزء.
[10262]:في ا و ج و ي: الشريعة. وهي من أسماء الجاثية.
[10263]:راجع ج 16 ص 166 فما بعد.
[10264]:في ا و ج و ي: "الكلبي".
[10265]:راجع ج 15 ص 9.
[10266]:كذا في الأصول.
[10267]:لفظة فرانسيية، معناها: جني. ولعله كذلك في لغة اللاتين.