تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَيۡنَكَ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا} (45)

الآية45 : وقوله تعالى : { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } قال بعضهم : إن الكفرة كانوا يمنعون رسول الله عن تبليغ الرسالة إلى الناس وقراءة ما أنزل إليه من القرآن عليهم ، وقد أمر بتبليغ الرسالة ، فأنزل الله عليه هذه الآية ، فأخبر أنه جعل بينه وبين أولئك حجابا مستورا ، ومكن له التبليغ إليهم بالحجاب الذي ذكر{[10929]} .

ثم اختلف في ذلك الحجاب : قال بعضهم : شغلهم في أنفسهم بأمور وأشغال حتى بلغ إليهم . ومنهم من يقول : ألقى في قلوبهم الرعب والخوف حتى لا يقدروا على منع ذلك . ومنهم من يقول : صيرتم بحيث كانوا لا يرونه ، ويستمعون قراءته وتلاوته ، ولم يقدروا على أذاهم به و الضرر عليه ، فبَلَّغَهم .

وجائز أن يكون ما ذكر من الحجاب ، هو حجاب الفهم ؛ وذلك أنهم كانوا ينظرون إليه بالاستخفاف والاستهزاء به ، فحجبوا عن فهم ما فيه ، وهو كقوله : { سأصرف عن آيتي الذين يتكبرون في الأرض بغير حق }الآية( الأعراف : 146 )يدل على ذلك قوله : { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } الآية( الأنعام : 25واالإسراء : 46 والكهف : 57 ) .

ثم قال الحسن في قوله : { جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } أي طبع على قلوبهم حتى لا يؤمنوا . ومذهبه في هذا أنه يقول : إن للكفر حدا ، إذا بلغ الكافر ذلك الحد طبع على قلبه ، فلا يؤمن أبدا ، واستوجب بذلك العقوبة والإهلاك بالذي كان منه{[10930]} . إلا أن الله بفضله أبقاهم لما علم أنه يلد منهم من يؤمن ، أو يبقيهم لمنافع غيره ، وإلا قد استوجب الإهلاك{[10931]} ، فيقول الحسن : أضاف ذلك إلى نفسه لما استوجبوا هم بفعلهم .

وقال أبو بكر الأصم : أضاف ذلك إليه لأنهم أنفوا عن إتباع الرسل ، وتكبروا عليهم ، فاستكبروا .

لكن نقول له : الاستكبار الذي ذكرت فعلهم ، لا لفعل الله ، فما معنى إضافة ذلك إليه ؟ فهو خيال وفرار عما يلزمهم في مذهبهم .

وقال جعفر بن حرب : في الآية إضمار لما هم أضافوا ذلك إليه أنه هو جعل ذلك ، وهو ما قالوا : { قلوبنا في أكنة }( فصلت : 5 ) { وقالوا قلوبنا غلف }( البقرة : 88 )ونحوه من الخيال ؟ فلو جاز صرف هذه الآيات إلى ما ذكروا من الخيال لجاز صرف الكل إلى مثله فهذا بعيد .

ولكن عندنا أن إضافة ذلك إلى نفسه تدل على أن له فيه صنعا وفعلا ، وهو أن يخذلهم باختيارهم ما اختاروا ، أو أضاف ذلك إليه لما خلق ظلمة الكفر في قلوبهم ، وهذا معروف في الناس ؛ أي إن من اعتقد الكفر يضيق صدره ، ويخرج قلبه ، حتى لا يبصر غيره ؛ وهو ليس يعتقد الكفر لئلا يبصر غيره ، ولا يهتدي إلى غيره ، لكن يبصر غيره ، فيدل هذا أنه يصير كذلك لصنع له فيه .

وكذلك من اعتقد الإيمان يبصر بنوره أشياء ؛ وهو ليس يعتقد الإيمان ليبصر بنوره أشياء غابت عنه ، دل أنه بغيره أدرك ذلك .

فكذلك المعروف في الخلق أن من اعتقد عداوة آخر يضيق صدره بذلك ، وكذلك من اعتقد ولاية آخر ينشرح صدره له بأشياء . فهذا كله يدل أن لغير في ذلك فعلا ، وهو ما ذكرنا من الخذلان والتوفيق ، أو خلق ذلك منهم ، والله أعلم ، فيدخل في ما ذكرنا في قوله{ وجعلنا على قلوبهم أكنة }الآية( الأنعام : 25والإسراء : 46 والكهف : 57 ) .

وأصله أن ما ذكر من الحجاب والغلاف والأكنة إنما هو على العقوبة لهم لعنادهم ومكابرتهم لأنهم كلما ازدادوا عنادا وتمردا ازدادت قلوبهم ظلمة وعمى ، وهو ما ذكر في غير آية حين{[10932]} قال : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم }الآية( الصف : 5 )

وقال : { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم }( التوبة : 127 )

وقال{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا

يكسبون }( المطففين : 14 ) .

أخبر أن ما ران على قلوبهم بكسبهم الذي كسبوا ، وأزاغ قلوبهم باختيارهم الزيغ ، وصرف قلوبهم باختيارهم الانصراف . فعلى ذلك ما ذكر من جعل الحجاب والأكنة عليها بما كان منهم ، والله أعلم .


[10929]:أدرج بعدها في الأصل : ثم ذكر.
[10930]:في الأصل و.م: منهم.
[10931]:في الأصل و.م : الهلاك.
[10932]:في الأصل و.م : حيث.