{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود } يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود والنضير وكانوا زهاء اثني عشر ألفا . { فأرسلنا عليهم ريحا } ريح الصبا . { وجنودا لم تروها } الملائكة . روي أنه عليه الصلاة والسلام لما سمع بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة ثم خرج إليهم في ثلاثة آلاف والخندق بينه وبينهم . ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى بعث الله عليهم ريحا بادرة في ليلة شاتية ، فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأطفأت نيرانهم وقلعت خيامهم وماجت الخيل بعضها في بعض وكبرت الملائكة في جوانب العسكر ، فقال طليحة بن خويلد الأسدي أما محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا من غير قتال . { وكان الله بما تعملون } من حفر الخندق ، وقرأ البصريان بالياء أي بما يعمل المشركون من التحزب والمحاربة . { بصيرا } رائيا .
ابتداء لغرض عظيم من أغراض نزول هذه السورة والذي حفّ بآيات وعِبَر من ابتدائه ومن عواقبه تعليماً للمؤمنين وتذكيراً ليزيدهم يقيناً وتبصيراً . فافتتح الكلام بتوجيه الخطاب إليهم لأنهم أهله وأحقّاءُ به ، ولأن فيه تخليد كرامتهم ويقينهم وعناية الله بهم ولطفَه لهم وتحقيراً لعدوّهم ومن يكيد لهم ، وأمروا أن يذكروا هذه النعمة ولا ينسوها لأن في ذكرها تجديداً للاعتزاز بدينهم والثقة بربهم والتصديق لنبيئهم صلى الله عليه وسلم .
واختيرت للتذكير بهذا اليوم مناسبةُ الأمر بعدم طاعة الكافرين والمنافقين لأن من النِعم التي حفّت بالمؤمنين في يوم الأحزاب أن الله ردّ كيد الكافرين والمنافقين فذُكِّر المؤمنون بسابق كيد المنافقين في تلك الأزمة ليحذروا مكائدهم وأراجيفهم في قضية التبنّي وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم مطلَّقة متبناه ، ولذلك خصّ المنافقون بقوله : { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } [ الأحزاب : 12 ] الآيات ؛ على أن قضية إبطال التبنّي وإباحة تزوّج مطلق الأدعياء كان بقرب وقعة الأحزاب .
و { إذ } ظرف للزمن الماضي متعلق ب { نعمة } لما فيها من معنى الإنعام ، أي : اذكروا ما أنعم الله به عليكم زمان جاءتكم جنود فهزمهم الله بجنود لم تروها .
وهذه الآية وما بعدها تشير إلى ما جرى من عظيم صنع الله بالمؤمنين في غزوة الأحزاب فلنأت على خلاصة ما ذكره أهل السير والتفسير ليكون منه بيان لمطاوي هذه الآيات .
وكان سبب هذه الغزوة أن قريشاً بعد وقعة أُحد تهادنوا مع المسلمين لمدة عام على أن يلتقوا ببدر من العام القابل فلم يقع قتال ببدر لتخلف أبي سفيان عن الميعاد ، فلم يناوش أحد الفريقين الفريق الآخر إلا ما كان من حادثة غدر المشركين بالمسلمين وهي حادثة بئر معونة حين غدرت قبائل عُصَيَّةَ ، ورِعْل ، وذَكوان من بني سُليم بأربعين من المسلمين إذ سأل عامر بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوجههم إلى أهل نجدٍ يَدعونهم إلى الإسلام . وكان ذلك كيداً كاده عامر بن مالك وذلك بعد أربعة أشهر من انقضاء غزوة أُحد .
فلما أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النَضير لِما ظهر من غدرهم به وخيسهم بالعهد الذي لهم مع المسلمين ، هنالك اغتاظ كبراء يهود قريظة بعد الجلاء وبعد أن نزلوا بديار بني قريظة وبخيبر فخرج سلاّم بن أبي الحُقَيق بتشديد لام سلاّم وضم حاء الحُقيق وفتح قافه وكنانة بنُ أبي الحُقيق ، وحُيي بن أخطب بضم حاء حُيَي وفتح همزة وطاء أخطب وغيرهم في نفر من بني النضير فقدموا على قريش لذلك وتآمروا مع غطفان على أن يغزوا المدينة فخرجت قريش وأحابيشها وبنو كنانة في عشرة آلاف وقائدهم أبو سفيان ، وخرجت غطفان في ألف قائدهم عيينة بن حصن ، وخرجت معهم هوازن وقائدهم عامر بن الطُفَيل .
وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عزمهم على منازلة المدينة أبلغتْه إياه خزاعة وخاف المسلمون كثرةَ عدوّهم ، وأشار سلمان الفارسي أن يُحْفر خندق يحيط بالمدينة تحصيناً لها من دخول العدوّ فاحتفره المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم يحفر وينقل التراب ، وكانت غزوة الخندق سنة أربع في رواية ابن وهب وابن القاسم عن مالك . وقال ابن إسحاق : سنة خمس . وهو الذي اشتهر عند الناس وجرى عليه ابنُ رشد في « جامع البيان والتحصيل » اتباعاً لما اشتهر ، وقول مالك أصحّ .
وعندما تم حفر الخندق أقبلت جنود المشركين وتسمّوْا بالأحزاب لأنهم عدة قبائل تحزبوا ، أي : صاروا حِزباً واحداً ، وانضمّ إليهم بنو قريظة فكان ورود قريش من أسفل الوادي من جهة المغرب ، وورود غطفان وهوازنَ من أعلى الوادي من جهة المشرق ، فنزل جيش قريش بمجتمع الأسيال من رُومَة بين الجُرف وزُغَابة بزاي معجمة مضمومة وغين معجمة وبعضهم يرويه بالعين المهملة وبعضهم يقول : والغابة ، والتحقيق هو الأول كما في « الروض الأنف » ، ونزل جيش غطفان وهوازن بذَنَب نَقْمَى إلى جانب أُحُد ، وكان جيش المسلمين ثلاثة آلاف ؛ وخرج المسلمون إلى خارج المدينة فعسكروا تحت جبل سَلْع وجعلوا ظهورهم إلى الجبل والخندقُ بينهم وبين العدوّ ، وجعل المسلمون نساءهم وذراريهم في آطام المدينة . وأمَّر النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم ، ودام الحال كذلك بضعاً وعشرين ليلة لم تكن بينهم فيها حرب إلا مصارعة بين ثلاثة فرسان اقتحموا الخندق من جهة ضيقة على أفراسهم فتقاتلوا في السبخة بين الخندق وسلْع وقُتل أحدهم قتلَه علي بن أبي طالب وفرّ صاحباه ، وأصاب سهمٌ غرْب سعد بن معاذ في أكْحله فكان منه موته في المدينة . ولحقت المسلمين شدّة من الحصار وخوف من كثرة جيش عدوّهم حتى همّ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصالح الأحزاب على أن يعطيهم نصف ثمر المدينة في عامهم ذلك يأخذونه عند طيبه وكاد أن يكتب معهم كتاباً في ذلك ، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقال سعد بن معَاذ : قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرىً أو بَيْعاً ، أفحين أكرَمَنا الله بالإسلام وأعزَّنا بك نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عزم عليه .
وأرسل الله على جيش المشركين ريحاً شديدة فأزالت خيامهم وأكْفأت قدورَهم وأطفأت نيرانهم ، واختلّ أمرهم ، وهلك كراعهم وخُفهم ، وحدث تخاذل بينهم وبين قريظة وظنت قريش أن قريظة صالحت المسلمين وأنهم ينضمون إلى المسلمين على قتال الأحزاب ، فرأى أهل الأحزاب الرأي في أن يرتحلوا فارتحلوا عن المدينة وانصرف جيش المسلمين راجعاً إلى المدينة .
فقوله تعالى { إذ جاءتكم جنودٌ } ذُكر توطئة لقوله { فأرسلنا عليهم ريحاً } الخ لأن ذلك هو محلّ المِنّة . والريح المذكورة هنا هي ريح الصَّبا وكانت باردة وقلعت الأوتاد والأطناب وسفت التراب في عيونهم وماجت الخيل بعضها في بعض وهلك كثير من خيلهم وإبلهم وشائهم . وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم « نُصرتُ بالصَّبا وأُهلكتْ عاد بالدبور » . والجنود التي لم يروها هي جنود الملائكة الذين أرسلوا الريح وألقوا التخاذل بين الأحزاب وكانوا وسيلة إلقاء الرعب في نفوسهم .
وجملة { وكان الله بما تعملون بصيراً } في موقع الحال من اسم الجلالة في قوله { نعمة الله } وهي إيماء إلى أن الله نصرهم على أعدائهم لأنه عليم بما لقيه المسلمون من المشقة والمصابرة في حفر الخندق والخروج من ديارهم إلى معسكرهم خارج المدينة وبذلهم النفوس في نصر دين الله فجازاهم الله بالنصر المبين كما قال { ولينصُرَنّ الله مَنْ ينصره } [ الحج : 40 ] .
وقرأ الجمهور { بما تعملون بصيراً } بتاء الخطاب . وقرأه أبو عمرو وحده بياء الغيبة ومحملها على الالتفات .
والجنود الأوُّل جمع جند ، وهو الجمع المتّحد المتناصر ولذلك غلب على الجمع المجتمع لأجل القتال فشاع الجند بمعنى الجيش . وذكر جنود هنا بلفظ الجمع مع أن مفرده مؤذن بالجماعة مثل قوله تعالى { جندٌ مَّا هنالك مهزوم من الأحزاب } [ ص : 11 ] فجمعه هنا لأنهم كانوا متجمعين من عدة قبائل لكل قبيلة جيش خرجوا متساندين لغزو المسلمين في المدينة ، ونظيره قوله تعالى : { فلما فصل طالوت بالجُنود } في سورة البقرة ( 249 ) .
والجنود الثاني جمع جند بمعنى الجماعة من صنف واحد . والمراد بهم ملائكة أُرسِلوا لِنَصْر المؤمنين وإلقاء الرعب والخوف في قلوب المشركين .