تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ} (18)

{ مَا يَلْفِظُ } أي : ابن آدم { مِنْ قَوْلٍ } أي : ما يتكلم بكلمة {[27289]} { إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } أي : إلا ولها من يراقبها معتد{[27290]} لذلك يكتبها ، لا يترك كلمة ولا حركة ، كما قال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الانفطار : 10 - 12 ] .

وقد اختلف العلماء : هل يكتب الملك كل شيء من الكلام ؟ وهو قول الحسن وقتادة ، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس ، على قولين ، وظاهر الآية الأول ، لعموم قوله : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي ، عن أبيه ، عن جده علقمة ، عن بلال بن الحارث المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه{[27291]} . وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله عليه بها {[27292]} سخطه إلى يوم يلقاه " . قال : فكان علقمة يقول : كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث .

ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، من حديث محمد بن عمرو به {[27293]} . وقال الترمذي : حسن صحيح . وله شاهد{[27294]} في الصحيح{[27295]} .

وقال الأحنف بن قيس : صاحب اليمين يكتب الخير ، وهو أمير على صاحب الشمال ، فإن أصاب العبد خطيئة قال له : أمسك ، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها ، وإن أبى كتبها . رواه ابن أبي حاتم .

وقال الحسن البصري وتلا هذه الآية : { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } : يا ابن آدم ، بُسطت لك صحيفة ، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك ، والآخر عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك فاعمل{[27296]} ما شئت ، أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك ، وجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة ، فعند ذلك يقول : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإسراء : 13 ، 14 ] ثم يقول : عدل - والله - فيك من جعلك حسيب نفسك .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر ، حتى إنه ليكتب قوله : " أكلت ، شربت ، ذهبت ، جئت ، رأيت " ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله ، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر ، وألقى سائره ، وذلك قوله : { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [ الرعد : 39 ] ، وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه ، فبلغه عن طاوس أنه قال : يكتب الملك كل شيء حتى الأنين . فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله{[27297]} .


[27289]:- (8) في م: "بكلام".
[27290]:- (9) في م: "معد".
[27291]:- (10) في أ: "القيامة".
[27292]:- (11) في م: "له بها عليه".
[27293]:- (12) المسند (3/469) وسنن الترمذي برقم (2319) والنسائي في السنن الكبرى، كما في تحفة الأشراف (2/103) وسنن ابن ماجه برقم (3969).
[27294]:- (1) في أ: "شواهد".
[27295]:- (2) شاهده حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6478).
[27296]:- (3) في أ: "فاملل".
[27297]:- (4) رواه صالح بن الإمام أحمد في سيرة أبيه.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ} (18)

{ ما يلفظ من قول } ما يرمي به من فيه . { إلا لديه رقيب } ملك يرقب عمله . { عتيد } معد حاضر ، ولعله يكتب عليه ما فيه ثواب أو عقاب وفي الحديث " كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر " .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ} (18)

وجملة { ما يلفظ من قول } الخ مبينة لجملة { يتلقى المتلقيان } فلذلك فصلت . و { ما } نافية وضمير { يلفظ } عائد للإنسان .

واللفظ : النطق بكلمةٍ دالة على معنى ولو جزء معنى ، بخلاف القول فهو الكلام المفيد معنى .

و { مِن } زائدة في مفعول الفعل المنفي للتنصيص على الاستغراق . والاستثناء في قوله : { إلاّ لديه رقيب عتيد } استثناء من أحوال عامة ، أي ما يقول قولاً في حالة إلا في حالة وجود رقيب عتيد لديه .

والأظهر أن هذا العموم مراد به الخصوص بقرينة قوله : { إلا لديه رقيب عتيد } لأن المراقبة هنا تتعلق بما في الأقوال من خير أو شرّ ليكون عليه الجزاء فلا يَكتب الحفظة إلاّ ما يتعلق به صلاح الإنسان أو فساده إذ لا حكمة في كتابة ذلك وإنما يكتب ما يترتب عليه الجزاء وكذلك قال ابن عباس وعكرمة . وقال الحسن : يكتبان كل ما صدر من العبد ، قال مجاهد وأبو الجوزاء : حتى أنينه في مرضه . وروي مثله عن مالك بن أنس . وإنما خص القولُ بالذكر لأن المقصود ابتداء من هذا التحذير المشركون وإنما كانوا يؤاخذون بأقوالهم الدالة على الشرك أو على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو أذاه ولا يؤاخذون على أعمالهم إذ ليسوا مكلفين بالأعمال في حال إشراكهم .

وأما الأعمال التي هي من أثر الشرك كالتطواف بالصنم ، أو من أثر أذى النبي عليه الصلاة والسلام كإلقاء سلا الجذور عليه في صلاته ، ونحو ذلك ، فهم مؤاخذون به في ضمن أقوالهم على أن تلك الأفعال لا تخلو من مصاحبة أقوال مؤاخذ عليها بمقدار ما صاحبها .

ولأن من الأقوال السيئة ما له أثر شديد في الإضلال كالدعاء إلى عبادة الأصنام ، ونهي الناس عن اتباع الحق ، وترويج الباطل بإلقاء الشُبَه ، وتغرير الأغرار ، ونحو ذلك ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " وهل يَكُبّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم " ، على أنه من المعلوم بدلالة الاقتضاء أن المؤاخذة على الأعمال أولى من المؤاخذة على الأقوال وتلك الدلالة كافية في تذكير المؤمنين .

وجملة { إلاّ لديه رقيب عتيد } في موضع الحال ، وضمير { لديه } عائد إلى { الإنسان } [ ق : 16 ] ، والمعنى : لدى لفظه بقوله .

و { عتيد } فعيل من عتَد بمعنى هَيّأ ، والتاء مبدلة من الدال الأول إذ أصله عديد ، أي مُعَدّ كما في قوله تعالى : { وأعتدَتْ لهن مُتَّكأ } [ يوسف : 31 ] . وعندي أن { عتيد } هنا صفة مشبهة من قولهم ( عَتُد ) بضم التاء إذا جَسم وضَخم كناية عن كونه شديدا وبهذا يحصل اختلاف بينه وبين قوله الآتي { هذا ما لديّ عتيد } [ ق : 23 ] ويحصل محسّن الجناس التام بين الكلمتين . وقد تواطأ المفسرون على تفسير التلقّي في قوله : { المتلّقيان } بأنه تلّقي الأعمال لأجل كتبها في الصحائف لإحضارها للحساب وكان تفسيراً حائماً حول جعل المفعول المحذوف لفعل { يتلقّى } ما دل عليه قوله بعده { ما يلفِظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } بدلالته الظاهرة أو بدلالة الاقتضاء . فالتقدير عندهم : إذ يتلقى المتلقيان عَمل الإنسان وقوله ، فتكون هذه الجملة على تقديرهم منفصلة عن جملة { وجاءت سكرة الموت بالحق } [ ق : 19 ] كما سنبينه .

ولفخر الدين معنى دقيق فبعد أن أجمل تفسير الآية بما يساير تفسير الجمهور قال : « ويحتمل أن يقال التلقّي الاستقبال ، يقال : فلان تلقى الركب ، وعلى هذا الوجه يكون معناه : وقت ما يتلقاه المتلقّيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد ، فالمتلقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من مَلَك الموت أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الويل والثبور إلى يوم النشور ، أي وقت تلقيهما وسؤالهما أنه من أي القبيلَيْن يكون عند الرجل قعيد عن اليمين وقعيد عن الشمال ملكان ينزلان ، وعنده ملكان آخران كاتبان لأعماله ، ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى : { سائق وشهيد } [ ق : 21 ] . فالشهيد هو القعيد والسائق هو المتلقي يتلقى روحه من ملَك الموت فيسوقه إلى منزله وقت الإعادة ، وهذا أعرف الوجهين وأقربهما إلى الفهم » اه .

وكأنه ينحو به منحى قوله تعالى : { فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذٍ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم } [ الواقعة : 83 85 ] . ولا نوقف في سداد هذا التفسير إلا على ثبوت وجود ملكين يتسلمان روح الميت من يد ملَك الموت عند قبضها ويجعلانها في المقر المناسب لحالها . والمظنون بفخر الدين أنه اطلع على ذلك ، وقد يؤيده ما ذكره القرطبي في « التذكرة » عن « مسند الطيالسي » عن البراء . وعن كتاب « النسائي » عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا حُضر الميت المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء يقولون : اخرجي راضية مرضيا عنك إلى رَوْح وريحان وربّ راضضٍ غير غضبان ، فإذا قبضه الملَك لم يدعوها في يده طرفة فتخرج كأطيب ريح المسك فتعرج بها الملائكة حتى يأتوا به باب السماء " وساق الحديث إلا أن في الحديث ملائكة جمعاً وفي الآية { المتلقيان } تثنية .

وعلى هذا الوجه يكون مفعول { يتلقى } ما دل عليه قوله بعده { وجاءت سكرة الموت } . والتقدير : إذ يتلقى المتلقّيان روح الإنسان . ويكون التعريف في قوله : { عن اليمين وعن الشمال } عوضاً عن المضاف إليه أي عن يمينها وعن شمالها قعيد ، وهو على التوزيع ، أي عن يمين أحدهما وعن شمال الآخر . ويكون { قعيد } مستعملاً في معنى : قعيدان فإن فعيلا بمعنى فاعل قد يعامل معاملة فعيل بمعنى مفعول ، كقول الأزرق بن طرفة :

رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئاً ومن أجل الطّويّ رماني

والاقتصار على { ما يلفظ من قول } حينئذٍ ظاهر لأن الإنسان في تلك الحالة لا تصدر منه أفعال لعجزه فلا يصدر منه في الغالب إلا أقوال من تضجّر أو أنين أو شهادة بالتوحيد ، أو ضدها ، ومن ذلك الوصايا والإقرارات .