الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ} (18)

قوله تعالى : " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " أي ما يتكلم بشيء إلا كتب عليه ، مأخوذ من لفظ الطعام وهو إخراجه من الفم . وفي الرقيب ثلاثة أوجه : أحدها : أنه المتبع للأمور . الثاني : أنه الحافظ ، قاله السدي . الثالث : أنه الشاهد ، قاله الضحاك . وفي العتيد وجهان : أحدهما : أنه الحاضر الذي لا يغيب . الثاني : أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة . قال الجوهري : العتيد الشيء الحاضر المهيأ ، وقد عتده تعتيدا وأعتده إعتادا أي أعده ليوم ، ومنه قوله تعالى : " وأعتدت لهن متكأ{[14164]} " [ يوسف : 31 ] وفرس عَتَد وعتِد بفتح التاء وكسرها المعد للجري .

قلت وكله يرجع إلى معنى الحضور ، ومنه قول الشاعر :

لئن كنتَ منّي في العِيانِ مُغَيَّباً *** فذكرُكَ عندي في الفؤادِ عَتِيدُ

قال أبو الجوزاء ومجاهد : يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه . وقال عكرمة : لا يكتب إلا ما يؤجر به أو يؤزر عليه . وقيل : يكتب عليه كل ما يتكلم به ، فإذا كان آخر النهار محي عنه ما كان مباحا ، نحو انطلق اقعد كل مما لا يتعلق به أجر ولا وزر ، والله أعلم . وروي عن أبي هريرة وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيرا وفي آخرها خيرا إلا قال الله تعالى لملائكته : اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة ) . وقال علي رضي الله عنه : ( إن لله ملائكة معهم صحف بيض ، فأملوا في أولها وفي آخرها خيرا يغفر لكم ما بين ذلك ) . وأخرج أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدثنا جدي محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال حدثنا سهيل بن عبدالله قال : سمعت الأعمش يحدث عن زيد بن وهب عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الحافظين إذا نزلا على العبد أو الأمة منهما كتاب مختوم فيكتبان ما يلفظ به العبد أو الأمة فإذا أرادا أن ينهضا قال أحدهما للأخر : فك الكتاب المختوم الذي معك فيفكه له ، فإذا فيه ما كتب سواء فذلك قوله تعالى " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " غريب ، من حديث الأعمش عن زيد ، لم يروه عنه إلا سهيل . وروي من حديث أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله وكل بعبده ملكين يكتبان عمله فإذا مات قالا ربنا قد مات فلان فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى : إن سمواتي مملوءة من ملائكتي يسبحونني فيقولان ربنا نقيم في الأرض فيقول الله تعالى إن أرضي مملوءة من خلقي يسبحونني فيقولان : يا رب فأين نكون ؟ فيقول الله تعالى : كونا على قبر عبدي فكبراني وهللاني وسبحاني{[14165]} واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة ) .


[14164]:راجع جـ 9 ص 178.
[14165]:في أ، ح، ن، هـ: "واذكراني".