تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلذَّـٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية .

قال شعبة{[27391]} بن الحجاج ، عن سِمَاك ، عن خالد بن عَرْعَرَة أنه سمع عليا وشعبة أيضًا ، عن القاسم بن أبي بزَّة ، عن أبي الطُّفَيْل ، سمع عليًا . وثبت أيضًا من غير وجه ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : أنه صعد منبر الكوفة فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله ، ولا عن سنة عن رسول الله ، إلا أنبأتكم بذلك . فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى : { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } ؟ قال : الريح [ قال ] {[27392]} : { فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا } ؟ قال : السحاب . [ قال ]{[27393]} : { فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا } ؟ قال : السفن . [ قال ] {[27394]} : { فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } ؟ قال : الملائكة {[27395]} .

وقد روي في ذلك حديث مرفوع ، فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن هانئ ، حدثنا سعيد بن سلام العطار ، حدثنا أبو بكر بن أبي سَبْرَة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : جاء صَبِيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن { الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } ؟ فقال : هي الرياح ، ولولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . قال : فأخبرني عن { الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } قال : هي الملائكة ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . قال : فأخبرني عن { الْجَارِيَاتِ يُسْرًا } قال : هي السفن ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . ثم أمر به فضرب مائة ، وجعل في بيت ، فلما برأ {[27396]} [ دعا به و ] {[27397]} ضربه مائة أخرى ، وحمله على قَتَب ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري : امنع الناس من مجالسته . فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف بالأيمان الغليظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا . فكتب في ذلك إلى عمر ، فكتب عمر : ما إخاله إلا صدق ، فخل بينه وبين مجالسة الناس .

قال أبو بكر البزار : فأبو بكر بن أبي سبرة لين ، وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث {[27398]} .

قلت : فهذا الحديث ضعيف رفعه ، وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر ، فإن قصة صَبِيغ بن عسل مشهورة مع عمر {[27399]} ، وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتا وعنادا ، والله أعلم .

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة صبيغ مطولة {[27400]} . وهكذا فسرها ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد . ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك .

وقد قيل : إن المراد بالذاريات : الريح كما تقدم وبالحاملات وقرًا : السحاب كما تقدم ؛ لأنها تحمل الماء ، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل :

وَأسْلَمْتُ نَفْسي لمَنْ أسْلَمَتْ *** لَهُ المزْنُ تَحْمِلُ عَذْبا زُلالا {[27401]}

فأما الجاريات يسرًا ، فالمشهور عن الجمهور - كما تقدم - : أنها السفن ، تجري ميسرة في الماء جريا سهلا . وقال بعضهم : هي النجوم تجري يسرا{[27402]} في أفلاكها ، ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ، إلى ما هو أعلى منه ، فالرياح فوقها السحاب ، والنجوم فوق ذلك ، والمقسمات أمرا الملائكة فوق ذلك ، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية . وهذا قسم من الله عز جل على وقوع المعاد ؛ ولهذا قال : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ }


[27391]:- (1) في أ: "سعيد".
[27392]:- (2) زيادة من م.
[27393]:- (3) زيادة من م.
[27394]:- (4) زيادة من م.
[27395]:- (5) رواه الطبري في تفسيره (26/115) عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة به.
[27396]:- (6) في م: "برد".
[27397]:- (7) زيادة من م، أ.
[27398]:- (1) مسند البزار برقم (2259) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/112): "فيه أبو بكر بن أبي سبرة، وهو متروك".
[27399]:- (2) في م: "مع التميمي عمر".
[27400]:- (3) تاريخ دمشق (8/230) "القسم المخطوط".
[27401]:- (4) البيت في سيرة ابن هشام (1/231).
[27402]:- (5) في أ: "سيرا".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلذَّـٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الذاريات مكية وآيها ستون آية .

بسم الله الرحمن الرحيم { والذاريات ذروا } يعني الرياح تذرو التراب وغيره ، أو النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد ، أو الأسباب التي تذري الخلائق من الملائكة وغيرهم . وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الذال .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلذَّـٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا} (1)

مقدمة السورة:

تسمى هذه السورة { والذاريات } بإثبات الواو تسمية لها بحكاية الكلمتين الواقعتين في أولها . وبهذا عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه وابن عطية في تفسيره والكواشي في تلخيص التفسير والقرطبي .

وتسمى أيضا { سورة الذاريات } بدون الواو اقتصارا على الكلمة التي لم تقع في غيرها من سور القرآن . وكذلك عنونها الترمذي في جامعه وجمهور المفسرين .

وكذلك هي في المصاحف التي وقفنا عليها من مشرقية ومغربية قديمة .

ووجه التسمية أن هذه الكلمة لم تقع بهذه الصيغة في غيرها من سور القرآن .

وهي مكية بالاتفاق .

وقد عدت السورة السادسة والستين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد . نزلت بعد سورة الأحقاف وقبل سورة الغاشية .

واتفق أهل عد الآيات على أن آيها ستون آية .

أغراض هذه السورة

احتوت على تحقيق وقوع البعث والجزاء .

وإبطال مزاعم المكذبين به وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورميهم بأنهم يقولون بغير تثبت .

ووعيدهم بعذاب يفتنهم .

ووعد المؤمنين بنعيم الخلد وذكر ما استحقوا به تلك الدرجة من الإيمان والإحسان .

ثم الاستدلال على وحدانية الله والاستدلال على إمكان البعث وعلى أنه واقع لا محالة بما في بعض المخلوقات التي يشاهدونها ويحسون بها دالة على سعة قدرة الله تعالى وحكمته على ما هو أعظم من إعادة خلق الإنسان بعد فنائه وعلى أنه لم يخلق إلا لجزائه .

والتعريض بالإنذار بما حاق بالأمم التي كذبت رسل الله ، وبيان الشبه التام بينهم وبين أولئك .

وتلقين هؤلاء المكذبين الرجوع إلى الله وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم ونبذ الشرك . ومعذرة الرسول صلى الله عليه وسلم من تبعة إعراضهم والتسجيل عليهم بكفران نعمة الخلق والرزق .

ووعيدهم على ذلك بمثل ما حل بأمثالهم .

القَسَم المفتتح به مراد منه تحقيق المقسم عليه وتأكيد وقوعه وقد أقسم الله بعظيم من مخلوقاته وهو في المعنى قسم بقدرته وحكمته ومتضمن تشريف تلك المخلوقات بما في أحوالها من نعم ودلالةٍ على الهدى والصلاح ، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله فيما أوجد فيها .

والمُقْسَم بها الصفات تقتضي موصفاتها ، فآل إلى القَسَم بالموصوفات لأجل تلك الصفات العظيمة . وفي ذلك إيجاز دقيق ، على أن في طي ذكر الموصوفات توفيراً لما تؤذن به الصفات من موصوفات صالحة بها لتذهب أفهام السامعين في تقديرها كل مذهب ممكن .

وعطف تلك الصفات بالفاء يقتضي تناسبها وتجانسها ، فيجوز أن تكون صفات لجنس واحد وهو الغالب في عطف الصفات بالفاء ، كقول ابن زيَّابة{[391]} :

يا لهف زَيابَةَ للحارث{[392]} الصَ *** ـابح فالغانم فالآيب{[393]}

ويجوز أن تكون مختلفة الموصوفات إلا أن موصوفاتها متقاربة متجانسة كقول امرىء القيس :

بسِقط اللِوى بين الدَّخول فَحَوْمَل *** فتوضح فالمقراة . . . . . . . . . .

وقول لبيد :

بمشارق الجبلين أو بمُحجر *** فتَضَّمنتْها فَردة فرُخَامها

فصَوائق إن أيمنت . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت

ويكثر ذلك في عطف البقاع المتجاورة ، وقد تقدم ذلك في سورة الصافات .

واختلف أيمة السلف في محمل هذه الأوصاف وموصوفاتها . وأشهر ما رُوي عنهم في ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد أن { الذاريات } الرياح لأنها تذرو التراب ، و { الحاملات وِقْراً } : السحاب ، و { الجاريات } : السفن ، و { المُقسِّمات أمراً } الملائكة ، وهو يقتضي اختلاف الأجناس المقسم بها .

وتأويله أن كل معطوففٍ عليه يُسبب ذكر المعطوف لالتقائهما في الجامع الخيالي ، فالرياح تذكِّر بالسحاب ، وحمل السحاب وِقْرَ الماء يذكر بحمل السفن ، والكل يذكر بالملائكة . ومن المفسرين من جعل هذه الصفات الأربع وصفاً للرياح قاله في « الكشاف » ونقل بعضه عن الحسن واستحسنه الفخر ، وهو الأنسب لعطف الصفات بالفاء .

فالأحسن أن يُحمل الذرو على نشر قطع السحاب نَشراً يشبه الذرو . وحقيقة الذرو رَمي أشياء مجتمعة تُرمى في الهواء لتقع على الأرض مثل الحَب عند الزرع ومثل الصوف وأصله ذرو الرياح التراب فشبه به دفع الريح قطع السحاب حتى تجتمع فتصير سحاباً كاملاً فالذاريات تنشر السحاب ابتداء كما قال تعالى : { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء } [ الروم : 48 ] . والذرو وإن كان من صفة الرياح فإنّ كون المذرو سحاباً يؤول إلى أنه من أحوال السحاب وقيل ذروها التراب وذلك قبل نَشرها السحب وهو مقدمة لنشر السحاب .

ونُصب { ذَرْواً } على المفعول المطلق لإرادة تفخيمه بالتنوين ، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى المفعول ، أي المَذْرو ، ويكون نصبه على المفعول به .


[391]:- يريد: امه واسمها زيابة.
[392]:- هو الحارث بن همام الشيباني، وهو شاعر قديم جاهلي وكان بينه وبين ابن زيابة عداوة وهذا البيت من أبيات هي جواب عن هجاء هجاه به الحارث
[393]:- تهكم بالحارث.