سورة مكية ، وآياتها 60 آية ، نزلت بعد سورة الأحقاف .
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ( 1 ) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ( 2 ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( 3 ) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ( 4 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( 5 ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( 6 ) } . ( الذاريات : 1- 6 ) .
وهي كلمات غير مطروقة وغير متداولة ، وقد سئل الإمام علي رضي الله عنه ، عن معنى قوله تعالى : { والذاريات ذروا } . فقال رضي الله عنه : هي الريح ، فسئل عن : { فالحاملات وقرا } . فقال : هي السحاب ، فسئل عن : { فالجاريات يسرا } . فقال : هي السفن ، فسئل عن : { فالمقسمات أمرا } . فقال : هي الملائكة .
{ والذاريات ذروا } . هي الريح التي تذرو التراب وغيره ، { فالحاملات وقرا } . أي : السحب الحاملة للمطر ،
والوقر : الحمل الثقيل ، { فالجاريات يسرا } . أي : السفن الجارية في البحر جريا سهلا ، { فالمقسمات أمرا } . أي : الملائكة التي تقسم وتوزع أمور الله من الأمطار والأرزاق وغيرها .
لقد أقسم الله بالريح وبالسحب وبالسفن وبالملائكة ، وفي هذا القسم ما يوحي بأن الرزق بيد الله ، فهو الذي يسوق السحاب ، وهو الذي يسخر الريح للسفن ، وهو الذي جعل الملائكة أصنافا تقسم الأمور ، فالخلق البديع المنظم وراءه قوة عليا مبدعة ، وهو سبحانه قد وعد الناس أن يجازيهم بالإحسان إحسانا ، وبالسوء سوءا ، ووعده واقع لا محالة .
{ والسماء ذات الحبك } . ( الذاريات : 7 ) . الحبك بضمتين : جمع حبيكة ، وهي الطريق ومدار الكواكب ، والمراد الطرائق التي هي مسير الأجرام السماوية من نجوم وكواكب ، يقسم الله بالسماء المتسقة المحكمة الترتيب ، بما فيها من نجوم وكواكب تسلك طريقها مسرعة في مجراتها العظيمة بنظام دقيق وإبداع شامل ، على أن المشركين يخوضون في حديث باطل وقول متناقض مضطرب ، فصنع الله محكم ، وعمل الكافرين باطل مضطرب فتراهم حينا يقولون عن النبي : إنه شاعر ، وتارة يقولون : ساحر ، ومرة ثالثة يقولون : مجنون ، وهذا دليل على التخبط وفساد الرأي .
وقد رسمت السورة صورة الكافرين يذوقون عذاب جهنم ، ويقال لهم : { ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون } . ( الذاريات : 14 ) .
أي : تعرضوا لعذاب النار ، وقد كنتم تستعجلون مجيئه استهزاء بأمره واستبعادا لوقوعه .
وعلى الضفة الأخرى ، وفي الصفحة المقابل ، يرتسم مشهد آخر لفريق آخر ، فريق مستيقن بالآخرة ، مستيقظ للعمل الصالح ، فريق المتقين الذين أدوا حقوق الله بالصلاة وقيام الليل ، وأدوا حقوق الناس بالزكاة والصدقة .
تشير الآية العشرون إلى آثار قدرة الله في خلق الأرض ، فيقول سبحانه : { وفي الأرض آيات للموقنين } . ( الذاريات : 20 ) . وإذا تأملنا مضمون هذه الآية وجدنا أن هذا الكوكب الذي نعيش عليه معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته ، هذه الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته ، ولو اختلت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جدا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها . . ولو تغير حجمها صغرا أو كبرا ، لو تغير وضعها من الشمس قربا أو بعدا ، لو تغير حجم الشمس ودرجة حرارتها ، لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا ، لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطئا ، لو تغير حجم القمر أو بعده عنها ، لو تغيرت نسبة الماء إلى اليابس فيها زيادة أو نقصا . . لو . . لو . . لو ، إلى آلاف الموافقات العجيبة المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته ، أليست هذه آية أو آيات معروفة في هذا المعرض الإلهي ؟ .
( وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها ، حيثما امتد الطرف ، وحيثما تنقلت القدم ، وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفذ : من واد وجبل ، ووهاد وبطاح ، وبحار وبحيرات ، وأنهار وغدران ، وقطع متجاورات ، وجنات وأعناب ، وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان . . وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير )1 .
{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون } . ( الذاريات : 21 ) .
خلق الله الإنسان بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وشق له السمع والبصر ، وزوده بالحواس المتعددة ووسائل الإدراك المختلفة .
( وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى بأسرار تدهش وتحير ، تكوين أعضائه وتوزيعها ، وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف ، عملية الهضم والامتصاص ، عملية التنفس والاحتراق ، دورة الدم في القلب والعروق ، الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم ، الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد وانتظامه ، تناسق هذه الأجهزة كلها وتعاونها وتجاوبها الكامل الدقيق ، وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب ، وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحير الألباب )2 .
{ وفي السماء رزقكم وما توعدون } . ( الذاريات : 22 ) .
فبيد الله الخلق والرزق والهدى والضلال ، وأرزاق السماء تشمل الأرزاق المادية والمعنوية .
( وفي السماء أسباب أقواتكم ، فالظواهر الفلكية ، وجريان الشموس والكواكب وتوابعها ، واختلاف الليل والنهار ، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وبث فيها من كل دابة ، وتصريف الرياح ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض ، كل هذه الظواهر ذللها الله لخدمة الإنسان ، فليس الرزق موقوفا على شيء يتعلق بالأرض وحدها ، بل الأمر كله لله تعالى ، يقبض ويبسط ، وإليه المآب )3 .
ثم يعقب الله بالقسم : بحق رب الأرض والسماء إن هذا الأمر لحق مثل نطقكم ، بل تشكون في أنكم تنطقون ؟
يشتمل القطاع الثاني من سورة ( الذاريات ) على الإشارة إلى قصص إبراهيم ولوط وموسى ، وعاد قوم هود ، وثمود قوم صالح ، ثم آية واحدة عن قوم نوح ، وهذا القصص مرتبط بما قبله ، ومرتبط بما بعده في سياق السورة .
وإبراهيم أبو البشر اتخذه الله خليلا ، وأرسل إليه ملائكة مكرمين ، فأكرم الخليل وفادتهم ، وقرب لهم عجلا سمينا ودعاهم للأكل منه ، ولكنهم أمسكوا عن الطعام ، فخاف منهم إبراهيم فلما شاهدوا خوفه أخبروه بأنهم ملائكة من السماء أرسلهم الله إليه ، ثم بشروه بغلام حليم .
وأقبلت زوجته ، وقد استولى عليها هول المفاجأة ، فضربت وجهها بأطراف أصابعها ، وصاحت متعجبة من الحمل وهي عجوز عقيم ، فأخبرتها الملائكة بأنه لا وجه للعجب فذلك أمر الله ، وهو الحكيم في أعماله ، العليم بعباده .
واتجهت الملائكة بعد ذلك إلى لوط عليه السلام ، فلما رآهم لوط أنكرهم وضاق بهم ذرعا ، فقالت له الملائكة : يا لوط ، إنا رسل ربك ، جئنا لإنقاذك ومن معك من المؤمنين ، فأرسل بأهلك في ظلام الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فقد حقت عليها كلمة العذاب مثل هؤلاء الظالمين .
ولم تجد الملائكة في قرى قوم لوط غير أهل بيت واحد من المسلمين هو لوط وابنتاه .
ولما خرج لوط وابنتاه ، جعل الله ديارهم عاليها سافلها ، وساق إليهم عاصفة رعدية أمطرتهم بحجارة مسمومة ، استأصلت شأفتهم وتركتهم أثرا بعد عين ، وجعلهم الله عظة وعبرة للمعتبرين .
أشارت الآيات ( 38- 46 ) إلى العبرة والعظة من قصة موسى ، ومن قصص غيره من الأنبياء في لمحة عاجلة .
لقد أرسل الله موسى -ومعه سلطان الهيبة وجلال النبوة- إلى فرعون وملئه ، فأعرض فرعون عن موسى واتهمه بالسحر والجنون ، فأغرق الله فرعون وجنده في البحر ، وألبسه ثوب الخزي والندم .
وآية أخرى في عاد قوم نبي الله هود ، حين كذبوا نبيهم فأرسل الله عليهم ريحا عاتية تحمل العذاب والدمار .
وآية ثالثة في ثمود ، أمهلهم الله ثلاثة أيام ، ثم أرسل عليهم صاعقة فأصبحوا هالكين .
والحجارة التي أرسلت على قوم لوط ، والريح التي أرسلت على عاد ، والصاعقة التي أرسلت على ثمود ، كلها قوى كونية مدبرة بأمر الله ، مسخرة بمشيئته ونواميسه ، يسلطها على من يشاء في إطار تلك النواميس ، فتؤدي دورها الذي يكلفها الله كأي جند من جند الله .
آية رابعة في قوم نوح ، فقد أهلكوا وأغرقوا لفسوقهم وكفرهم وخروجهم على طاعة الله .
وللتنبيه إلى بدائع صنعه إيقاظا للعاطفة الدينية ، عاد فذكر أنه رفع السماء ووسعها ، وخلق الأرض ومهدها ، وأعدها لما عليها من الكائنات ، ومن كل شيء في هذه الأرض خلقنا ذكرا وأنثى ليكون ذلك وسيلة للعظة والاعتبار .
ثم يحث القرآن الناس على أن يتخلصوا من آثار المادة والهوى والشيطان ، فرارا بدينهم ، وطمعا في رحمة خالقهم ، ورغبة في حماه وفضله : { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } . ( الذاريات : 50 ) .
وتكشف الآيات عن طبيعة المعاندين في جميع العصور ، فقد كذبوا الرسل واتهموهم بالجنون أو بالسحر كأنما وصى السابق منهم اللاحق ، وكأن الكفر في طبيعته ملة واحدة ، والرسالات كلها فكرة واحدة ، فمن كذب برسول واحد فكأنما كذب برسل الله أجمعين .
{ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون } .
هذه السورة تربط القلب البشري بالله ، وترشده إلى عظيم صنعه ، وفي ختام السورة يؤكد الله هذا المعنى فيبين أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعرفوه ويوحدوه ويؤمنوا به ، فهو سبحانه وتعالى غني بذاته ، وهم في حاجة وافتقار إليه .
إن معنى العبادة هي الخلافة في الأرض ، وهي غاية الوجود الإنساني ، وهي أوسع وأشمل من مجرد الشعائر ، وتتمثل حقيقة العبادة في أمرين رئيسيين :
الأول : هو استقرار معنى العبودية لله في النفس ، أي استقرار الشعور بأنه ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود ، وإلا رب واحد والكل له عبيد .
والثاني : هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير ، وكل حركة في الجوارح ، وكل حركة في الحياة .
بهذا وذاك يتحقق معنى العبادة ، ويصبح العمل كالشعائر ، والشعائر كعمارة الأرض ، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله ، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضا بقدر الله ، كلها عبادة ، وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها ، وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه .
والمؤمن الحق هو الحريص على أداء واجباته ومرضاة ربه ، وهو لا يعني نفسه بأداء الواجبات تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء ، أما الغايات فموكولة لله يأتي بها وفق قدره الذي يريده .
إن الله تعالى لم يخلق الجن والإنس ليستعين بهم لجلب منفعة لذاته أو لدفع مضرة ، وما يريد الله منهم أن يرزقوا أحدا من خلقه أو يطعموه ، إن الله سبحانه وتعالى هو الكفيل برزقهم ، والمتفضل عليهم بما يقوم بمعيشتهم ، وهو سبحانه ذو القدرة والقوة ، وهو الغالب على أمره فلا يعجزه شيء .
وفي ضوء هذه الحقيقة ينذر الذين ظلموا فلم يؤمنوا بأن لهم نصيبا من العذاب مثل نصيب من سبقهم من الظالمين ، فالله يمهل ولا يهمل ، وتختتم السورة بهذا الإنذار الأخير : { فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون * فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون } . ( الذاريات : 59 ، 60 ) .
معظم مقصود سورة الذاريات ما يأتي : القسم بأن البعث والقيامة حق ، والإشارة إلى عذاب أهل الضلالة ، وثواب أرباب الهداية ، وحجة الوحدانية ، وكرامة إبراهيم في باب الضيافة ، وهلاك قوم لوط وفرعون وقومه لمخالفتهم أمر الله ، وتدمير عاد وثمود وقوم نوح وخسرانهم ، وخلق السماوات والأرض للنفع والإفادة ، وزوجية المخلوقات للدلالة على قدرة الخالق ، وتخليق الخلق لأجل العبادة ، واستحقاق المنكرين للعذاب والعقوبة4 .
الذاريات : الرياح تذرو التراب وغيره ، أي : تفرقه .
1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 5 ، 6 – { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ( 1 ) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ( 2 ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( 3 ) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ( 4 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( 5 ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( 6 ) } .
هذا القسم يأخذ بالألباب ، في رشاقة ويسر وتناسق ، وقد ثبت من غير وجه عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب ، أنه صعد منبر الكوفة ، فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله ، ولا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنبأتكم بذلك ، فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى :