الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱلذَّـٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الجميع وهي ستون آية

قوله تعالى : " والذاريات ذروا " قال أبو بكر الأنباري : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن ، عن يزيد بن خصيفة ، عن السائب بن يزيد أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه : إني مررت برجل{[14196]} يسأل عن تفسير مشكل القرآن ، فقال عمر : اللهم أمكني منه ، فدخل الرجل على عمر يوما وهو لا بس ثيابا وعمامة وعمر يقرأ القرآن ، فلما فرغ قام إليه الرجل فقال : يا أمير المؤمنين ما " الذاريات ذروا " فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده ، ثم قال : ألبسوه ثيابه واحملوه على قَتَب وأبلغوا به حيه ، ثم ليقم خطيبا فليقل : إن صَبِيغا{[14197]} طلب العلم فأخطأه ، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم . وعن عامر بن واثلة أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ما " الذاريات ذروا " قال : ويلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا " والذاريات ذروا " الرياح " فالحاملات وقرا " السحاب " فالجاريات يسرا " السفن " فالمقسمات أمرا " الملائكة . وروى الحرث عن علي رضي الله عنه " والذاريات ذروا " قال : الرياح " فالحاملات وقرا " قال : السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر " فالجاريات يسرا " قال : السفن موقرة " فالمقسمات أمرا " قال : الملائكة تأتي بأمر مختلف ، جبريل بالغلظة ، وميكائيل صاحب الرحمة ، وملك الموت يأتي بالموت . وقال الفراء : وقيل تأتي بأمر مختلف من الخصب والجدب والمطر والموت والحوادث{[14198]} . ويقال : ذرت الريح التراب تذروه ذروا وتذرية ذريا . ثم قيل : " والذاريات " وما بعده أقسام ، وإذا أقسم الرب بشيء أثبت له شرفا . وقيل : المعنى ورب الذاريات ، والجواب " إنما توعدون " أي الذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب " لصادق " لا كذب فيه ، ومعنى " لصادق " لصدق ، وقع الاسم موقع المصدر . " وإن الدين لواقع " يعني الجزاء نازل{[14199]} بكم . ثم ابتدأ قسما آخر فقال : " والسماء ذات الحبك . إنكم لفي قول مختلف " [ الذاريات : 7 ] وقيل إن الذاريات النساء الولودات ؛ لأن في ذرايتهن ذرو الخلق ؛ لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات ، وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين . وخص النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذاريا لأمرين : أحدهما : لأنهن أوعية دون الرجال ، فلاجتماع الذّروين فيهن خصصن بالذِّكر . الثاني : أن الذّرو فيهن أطول زمانا ، وهن بالمباشرة أقرب عهدا . " فالحاملات وقرا " السحاب . وقيل : الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل . والوقر بكسر الواو ثقل الحمل على ظهر أو في بطن ، يقال : جاء يحمل وقره وقد أوقر بعيره . وأكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار ، والوسق في حمل البعير . وهذه امرأة موقرة بفتح القاف إذا حملت حملا ثقيلا . وأوقرت النخلة كثر حملها ، يقال : نخلة موقرة وموقر وموقرة ، وحكي موقر وهو على غير القياس ؛ لأن الفعل للنخلة . وإنما قيل : موقر بكسر القاف على قياس{[14200]} قولك امرأة حامل ؛ لأن حمل الشجر مشبه بحمل النساء ، فأما موقر بالفتح فشاذ ، وقد روي في قول لبيد يصف نخيلا :

عَصَبٌ كَوَارِعُ في خليجٍ مُحَلَّمٍ *** حَمَلَتْ فمنها مُوقَرٌ مَكْمُومُ

والجمع مواقر . فأما الوقر بالفتح فهو ثقل الأذن ، وقد وقرت أذنه توقر وقرا أي صمت ، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين وقد تقدم في " الأنعام{[14201]} " القول فيه . " فالجاريات يسرا " السفن تجري بالرياح يسرا إلى حيث سيرت . وقيل : السحاب ، وفي جريها يسرا على هذا القول وجهان : أحدهما : إلى حيث يسيرها الله تعالى من البلاد والبقاع . الثاني : هو سهولة تسييرها ، وذلك معروف عند العرب ، كما قال الأعشى :

كأن مِشْيَتَها من بيت جارتها *** مشيُ السحابة لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ


[14196]:هو صبيغ ـ كأمير ـ بن عسل ـ بكسر العين ـ كان يعنت الناس بالغوامض والسؤالات من متشابه القرآن فنفاه عمر إلى البصرة بعد ضربه، وكتب إلى واليها ألا يؤويه، ونهى عن مجالسته (التاج).
[14197]:هو صبيغ ـ كأمير ـ بن عسل ـ بكسر العين ـ كان يعنت الناس بالغوامض والسؤلات من متشابه القرآن فنفاه عمر إلى البصرة بعد ضربه، وكتب إلى واليها ألا يؤويه، ونهى عن مجالسته (التاج).
[14198]:في ل، ن: "الخوارق".
[14199]:في ز، ل، ن: "النازل".
[14200]:الزيادة من كتب اللغة.
[14201]:راجع جـ 6 ص 404.