سورة الذاريات مكية{[1]} وهي ستون آية ، وثلاثمائة وستون كلمة ، وألف ومائتان وتسعة وثمانون{[2]} حرفا .
قوله تعالى : { والذاريات ذَرْواً } أول هذه السورة مناسب لآخرها قبلها ، لأنه تعالى لما بين الحشر بدلائله ، وقال : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } وقال : { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } تُجْبِرهم على الإيمان ، إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان ، وتلاوة القرآن عليهم ، لم يبق إلا اليمين فقال : { والذاريات . . إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } وقال في آخرها { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ } .
وفي الحكمة في القسم ههنا وجوه :
أحدها : أن الكفار كانوا يَنْسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - للجدال ، ومعرفة طرقه ، وأنه عالم بفساد قولهم ، وأنه يغلبهم بمعرفته بالجدال ، وحينئذ لا يمكن أن يقابلهم بالأدلة ، كما أن من أقام خَصْمُه عليه الدليل ولم يبق له حجة ، يقول : إنه غلبني ، لعلمه بالجدل وعجزي عن ذلك ، وهو يعلم في نفسه أن الحق تبعي{[52635]} ولا يبقى للمتكلم المبرهن غير اليمين ، ليقول : والله إن الأمر كما أقول ولا أجادلك بالباطل لأنه لو استدل بطريق آخر يقول خصمه فيه كقوله الأول ، فلا يبقى إلا السكوت ، أو التمسك بالأيمان ، وترك إقامة البرهان .
الثاني : أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة ، وتعتقد أنها تخرب المنازل ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم{[52636]} - يكثر الإقسام ، دلالة على أنه صادق ولذلك كان أمره يتزايد ويعلموا{[52637]} أنه لا يحلف بها كاذباً .
الثالث : أن الأيمان التي أقسم بها كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان لينبّه بها على كمال القدرة ، كقول القائل للمنعم : وحقِّ نِعْمَتِك الكثيرة إنّي لا زال أَشْكُركَ . فذكر النعم التي هي سبب مفيد لدوام الشكر ، وإنما أخرجها مُخْرج الأيمان ، إيذاناً بأنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم فيصغي إليه السامع أكثر ما يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر{[52638]} فبدأ بالحلف{[52639]} .
أورد القسم على أمور منها الوحدانية ، ولظهور أمرها واعترافهم بها حيث يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلفى } [ الزمر : 3 ] وقولهم : { مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] لم يقسم عليها إلا في سورة الصافات{[52640]} ومنها الرسالة وهو في سورتين «وَالنَّجْمِ »{[52641]} «وَالضُّحَى »{[52642]} ، وبالحروف في «يس »{[52643]} ومنها الحشر ، والجزاء وما يتعلق به ، فلكثرة إنكارهم له كرر القسم عليه{[52644]} .
أقسم الله بجمع السلامة المؤنث في سور خمس{[52645]} ، ولم يقسم بجمع السلامة المذكر في سورةٍ أصلاً ، فلم يقل : والصَّالِحِينَ من عبادي ، ولا المقربين إلى غير ذلك مع أن المذكر أشرف ؛ لأن جموع السلامة بالواو والنون في الغالب لمن يعقل{[52646]} .
روي عن علي - ( رضي الله عنه ){[52647]} - في قوله تعالى : { والذاريات } قال هي الرياح التي تَذْرُو التُّراب يقال : ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ وأَذْرَتْ .
«الحَامِلاَت وقْراً » يعني السحاب تحمل ثِقْلاً من الماء .
«فَالجَارِيَاتِ يُسْراً » هي السفن تجري في الماء جرياً سهلاً .
«فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً » هي الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به ، أقسم بهذه الأشياء ، لما فيها من الدلالة على صنعته وقدرته{[52648]} .
قال ابن الخطيب : والأقرب أن هذه صفات للرياح ، فالذاريات هي التي تُنشئ السحاب أولاً ، والحاملات هي التي تحمل السحب التي هي بحار{[52649]} المياه التي إذا سحّتْ جرت السيول العظيمة ، وهي أوقارٌ أثقل من جبال . والجاريات هي التي تجري السحب عِنْدَ حَمْلِها ، وَالمُقَسِّمَات هي الرياح التي تقسم الأمطار وتفرقها على الأقطار ، ويحتمل أن يقال : هذه أمور أربعة ذكرت لأمور أربعة بها تتم الإعادة ، لأن الأجزاء المتفرقة بعضها في تُخُوم الأرض ، وبعضها في قَعْر{[52650]} البِحَار ، وبعضها في جَوِّ الهواء ، وفي الأجزاء البخارية اللطيفة المنفصلة عن الأبدان فالذاريات هي التي تجمع الذرات من الأرض ، وتَذْرُو التُّراب من وجه الأرض والحاملات هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملاً ، فإن التراب لا ترفعه الرياح حملاً مستقلاًّ بل تنقله من موضع إلى موضع ، بخلاف السحاب فإنه يحمله في الجو حملاً لا يقع منه شيء ، والجاريات هي الجامعة من الماء ، فإن من يُجْرِي السفنَ الثقيلة في تيّار البحار قادرٌ على نقل الأجزاء من البحر إلى البرّ ، فإذن تبين أن الجمع من الأرض وجو الهواء ووسط البحار ممكن ، وإذا اجتمع ذلك كله بَقِيَ{[52651]} نفخُ الروح ، وهي من أمر الله ، فقال : «فالمُقسِّمَاتِ أَمْراً » يعني الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأَمْر الله{[52652]} .
قوله : «ذَرواً » منصوب على المصدر المؤكد العامل فيه فرعه وهو اسم الفاعل{[52653]} ، والمفعول محذوف اختصاراً{[52654]} إذ لا نظير لما تذروه هنا .
وأدغم أبو عمرو وحمزة تاء «الذاريات » في ذال «ذَرْواً »{[52655]} وأما «وِقْراً » فهو مفعول{[52656]} به بالحاملات ، كما يقال : حَمَل فلانٌ عدْلاً ثَقِيلاً{[52657]} .
قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون اسماً أقِيمَ مُقَام المصدر{[52658]} ، كقوله : ضَرَبَهُ سَوْطاً{[52659]} . ويؤيده قراءة من قرأ بفتح الواو .
والوِقْرُ - بالكسر - اسم ما يوقِر أي يَحُلُّ . وقرئ بالفتح{[52660]} ، وذلك على تسمية المفعول{[52661]} بالمصدر . ويجوز أن يكون مصدراً على حاله والعامل فيه معنى الفعل قبله ، لأن الحَمْل والوَقْر بمعنى واحد ، وإن كان بينهما عموم وخصوص{[52662]} .
قوله : «يُسْراً » يجوز أن يكون مصدراً من معنى ما قبله أي جَرْياً يُسْراً{[52663]} وأن يكون حالاً ، أي ذات يُسْرٍ أو مَيْسَرة أو جعلت نفس اليُسْر مبالغةً{[52664]} .
قوله : «أَمْراً » يجوز أن يكون مفعولاً به ، وهو الظاهر ، كقولك : فُلاَنٌ قَسَّمَ الرِّزْقَ أَوِ المَالَ ، وأن تكون حالاً أي مأمورة{[52665]} . وعلى هذا فيحتاج إلى حذف مفعول «المُقَسِّمَات » . وقد يقال : لا حاجة لتقديره كما في الذاريات . وهل هذه أشياء مختلفة فتكون الفاء على بابها من عطف المتغايرات ، والفاء للترتيب في القسم لا في المقسم به ؟
قال الزمخشري : ويجوز أن يراد الرياح وحدها ، لأنها تُنْشِئ السحاب وتُقِلُّه ، وتَصْرِفُهُ ، وتجري في الجو جرياً سَهْلاً{[52666]} وعلى هذا يكون من عطف الصفات ، والمراد واحد ، كقوله ( - رحمه الله {[52667]}- ) :
يا لَهْفَ زَيَّابَةِ لِلْحَارِثِ *** الصّابحِ فَالغَانِمِ فَالآيبِ{[52668]}
إِلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ *** وَلَيْثِ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ{[52669]}
فتكون الفاء على هذا الترتيب{[52670]} الأمور في الوجود .
فإن قيل : إن كان «وقراً » مَفْعولاً لَمْ يُجمع وما قيل : أوقاراً ؟ .
فالجواب : لأن جماعةً مِنَ الرياح قد تحمل وقرا واحداً ، وكذا القول في المقسّمات أمراً إذا قيل : إنه مفعول به ، لأنه قد تجمع جماعة من الملائكة على أمر واحد{[52671]} .