التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَٱلذَّـٰرِيَٰتِ ذَرۡوٗا} (1)

مقدمة السورة:

المجلد الرابع عشر

تفسير سورة الذاريات

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد

1- سورة [ الذاريات ] من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها ستون آية . وكان نزولها بعد سورة " الأحقاف " .

2- وقد افتتحت هذه السورة بقسم من الله –تعالى- ، ببعض مخلوقاته ، على أن البعث حق ، وعلى أن الجزاء حق .

قال –تعالى- : [ والذاريات ذروا . فالحاملات وقرا . فالجاريات يسرا . فالمقسمات أمرا . إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع ] .

3- ثم بينت السورة الكريمة بعد ذلك ، ما أعده –سبحانه- لعباده المتقين ، فقال –تعالى- : [ إن المتقين في جنات وعيون ، آخذين ما آتاهم ربهم ، إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ] .

4- ثم ساق –سبحانه- بعد ذلك طرفا من قصة إبراهيم ولوط وهود وصالح وموسى ونوح –عليهم السلام- مع أقوامهم ، ليكون في هذا البيان ما يدعو كل عاقل إلى الاتعاظ والاعتبار ، بحسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار .

5- ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة ببيان ما يدل على كمال قدرته ، وعلى سعة رحمته ، ودعا الناس جميعا إلى إخلاص العبادة والطاعة له ، لأنه –سبحانه- ما خلقهم إلا لعبادته .

قال –تعالى- : [ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين . فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون . فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ] .

6- هذا ، والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يراها –كغيرها من السور المكية- قد ركزت حديثها على إقامة الأدلة على أن العبادة لا تكون إلا لله الواحد القهار ، وعلى أن البعث حق ، والجزاء حق ، وعلى أن سنة الله –تعالى- قد اقتضت أن يجعل العاقبة الطيبة لأنبيائه وأتباعهم ، والعاقبة السيئة للمكذبين لرسلهم ، وعلى أن الوظيفة التي من أجلها خلق الله –تعالى- أن يهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

د . محمد سيد طنطاوي

18 من جمادى الأولى 1406 ه

29/1/1986م

المراد بالذاريات : الرياح التى تذرو الشىء ، أى تسوقه وتحركه وتنقله من مكانه .

فهذا اللفظ اسم فاعل من ذرا المعتل ، بمعنى فرَّق وبدّد . يقال : ذّرّت الرياح التراب تذروه ذَرْواً ، وتَذْرِيه ذَرْياً - من بابى عدا ورمى - إذا طيرته وفرقته .

ومنه قوله - تعالى - : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح . . . } أى : تنقله وتحركه من مكان إلى آخر .

والمفعول محذوف ، و " ذروا " مصدر مؤكد ، وناصبه لفظ الذاريات ، أى : وحق الرياح التى تذروا التراب وغيره ذروا ، وتحركه تحريكا شديدا .

والمراد بالحاملات : السحب التى تحمل الأمطار الثقيلة ، فتسير بها من مكان إلى آخر .

والوقر - بكسر الواو - كالحمل وزنا ومعنى ، وهو مفعول به .

أى : فالسحب الحاملات للأمطار الثقيلة ، وللمياه الغزيرة ، التى تنزل على الأرض اليابسة ، فتحولها - بقدرة الله - تعالى - إلى أرض خضراء .

وهذا الوصف للسحاب بأنه يحمل الأمطار الثقيلة ، قد جاء ما يؤيده من الآيات القرآنية ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ . . . } وقوله - سبحانه - : { هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال }

والمراد بالجاريات : السفن التى تجرى فى البحر ، فتنقل الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد .

وقوله : { يُسْراً } صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف ، أى : فالجاريات بقدرة الله - تعالى - فى البحر جريا ذات يسر وسهولة ، إلى حيث يسيرها ربانها .

ويصح أن يكون قوله { يُسْراً } حال . أى : فالجاريات فى حال كونها ميسرة مسخرا لها البحر .

ومن الآيات التى تشبه فى معناها هذه الآية قوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام }

والمراد بالمقسمات فى قوله - سبحانه - { فالمقسمات أَمْراً } الملائكة ، فإنهم يقسمون أرزاق العباد وأمورهم وشئونهم . . . على حسب ما يكلفهم الله - تعالى - به من شئون مختلفة .

و { أَمْراً } مفعول به ، للوصف الذى هو المقسمات ، وهو مفرد أريد به الجمع ، أى : المقسمات لأمور العباد بأمر الله - تعالى - وإرادته .

وهذا التفسير لتلك الألفاظ ، قد ورد عن بعض الصحابة ، فعن أبى الطفيل أنه سمع عليا - رضى الله عنه - يقول - وهو على منبر الكوفة - : لا تسألونى عن آية فى كتاب الله ، ولا عن سنة رسول الله ، إلا أنبأتكم بذلك ، فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين . ما معنى قوله - تعالى - : { والذاريات ذَرْواً } قال : الريح . { فالجاريات يُسْراً } قال : السفن ، { فالمقسمات أَمْراً } قال : الملائكة .

وروى مثل هذا التفسير عن عمر بن الخطاب ، وعن ابن عباس .

ومن العلماء من يرى أن هذه الألفاظ جميعها صفات للرياح .

قال الإمام الرازى : هذه صفات أربع للرياح ، فالذاريات : هى الرياح التى تنشىء السحاب أولا . والحاملات : هى الرياح التى تحمل السحب التى هى بخار الماء . . . والجاريات : هى الرياح التى تجرى بالسحب بعد حملها . والمقسمات : هى الرياح التى تفرق الأمطار على الأقطار .

ومع وجاهة رأى الإمام الرازى فى هذه المسألة ، إلا أننا نؤثر عليه الرأى السابق ، لأنه ثابت عن بعض الصحابة ، ولأن كون هذه الألفاظ الأربعة لها معان مختلفة ، أدل على قدرة الله - تعالى - وعلى فضله على عباده .

وقد تركنا أقوالا ظاهرة الضعف والسقوط . كقول بعضهم : الذاريات هن النساء ، فإنهن يذرين الأولاد ، بمعنى أنهن يأتين بالأولاد بعضهم فى إثر بعض ، كما تنقل الرياح الشىء من مكان إلى مكان .

قال الآلوسى : ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات - كما هو الرأى المعول عليه - فالفاء للترتيب فى الأقسام ذكرا ورتبة ، باعتبار تفاوت مراتبها فى الدلالة على كمال قدرته - عز وجل - وهذا التفاوت إما على الترقى أو التنزل ، لما فى كل منها من الصفات التى تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر .

وإن حملت على واحد وهو الرياح ، فهى لترتيب الأفعال والصفات ، إذ الريح تذرو الأبخرة إلى الجو أولا ، حتى تنعقد سحابا ، فتحمله ثانيا ، وتجرى به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله - تعالى - ثم تقسم أمطاره .