تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

وقوله : { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة والضحاك : يعني : السواحر . قال مجاهد : إذا رقين ونفثن في العقد .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : ما من شيء أقرب من{[30846]} الشرك من رقية الحية والمجانين{[30847]} .

وفي الحديث الآخر : أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اشتكيت يا محمد ؟ فقال : " نعم " . فقال : بسم الله أرْقِيك ، من كل داء يؤذيك ، ومن شر كل حاسد وعين ، الله يشفيك{[30848]} .

ولعل هذا كان من شكواه ، عليه السلام ، حين سحر ، ثم عافاه الله تعالى وشفاه ، ورد كيد السحرَة الحسَّاد من اليهود في رءوسهم ، وجعل تدميرهم في تدبيرهم ، وفضحهم ، ولكن مع هذا لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر ، بل كفى الله وشفى وعافى .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن يزيد بن حَيَّان ، عن زيد بن أرقم قال : سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود ، فاشتكى لذلك أياما ، قال : فجاءه جبريل فقال : إن رجلا من اليهود سحرك ، عقد لك عُقَدًا في بئر كذا وكذا ، فَأرْسِل إليها من يجيء بها . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عليًا ، رضي الله تعالى عنه ]{[30849]} فاستخرجها ، فجاء بها فحللها{[30850]} قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نَشط من عقال ، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه [ قط ]{[30851]} حتى مات .

ورواه النسائي عن هَنَّاد ، عن أبي معاوية محمد بن حَازم الضرير{[30852]} .

وقال البخاري في " كتاب الطب " من صحيحه : حدثنا عبد الله بن محمد قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : أول من حدثنا به ابنُ جُرَيْج ، يقول : حدثني آل عُرْوَة ، عن عروة ، فسألت هشاما عنه ، فحدثَنا عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحر ، حتى كان يُرَى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن - قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر ، إذا كان كذا - فقال : " يا عائشة ، أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيتُه فيه ؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ قال : مطبوب . قال : ومن طَبَّه ؟ قال : لَبيد بن أعصم - رجل من بني زُرَيق حَليف ليهُودَ ، كان منافقًا - وقال : وفيم ؟ قال : في مُشط ومُشاقة . قال : وأين ؟ قال : في جُف طَلْعَة ذكر تحت رعوفة في بئر ذَرْوَان " . قالت : فأتى [ النبي صلى الله عليه وسلم ]{[30853]} البئر حتى استخرجه فقال : " هذه البئر التي أريتها ، وكأن ماءها نُقَاعة الحنَّاء ، وكأن نخلها رءوس الشياطين " . قال : فاستخرج{[30854]} . [ قالت ]{[30855]} . فقلت : أفلا ؟ أي : تَنَشَّرْتَ ؟ فقال : " أمَّا اللهُ فقد شفاني ، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًا " {[30856]} .

وأسنده من حديث عيسى بن يونس ، وأبي ضَمْرة أنس بن عياض ، وأبي أسامة ، ويحيى القطان وفيه : " قالت : حتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله " . وعنده : " فأمر بالبئر فدفنت " . وذكر أنه رواه عن هشام أيضًا ابن أبي الزَّناد والليث بن سعد{[30857]} .

وقد رواه مسلم ، من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة وعبد الله بن نمير . ورواه أحمد ، عن عفان ، عن وُهَيب{[30858]} عن هشام ، به{[30859]} .

ورواه الإمام أحمد أيضًا عن إبراهيم بن خالد ، عن رباح ، عن مَعْمَر ، عن هشَام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يُرى أنه يأتي ولا يأتي ، فأتاه ملكان ، فجلس أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه ، فقال أحدهما للآخر : ما باله ؟ قال : مطبوب . قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم ، وذكر تمام الحديث{[30860]} .

وقال الأستاذ المفسر الثعلبي في تفسيره : قال ابن عباس وعائشة ، رضي الله عنهما : كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبَّت إليه اليهود ، فلم يزالوا به حتى أخذ مُشَاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مُشطه ، فأعطاها اليهود ، فسحروه فيها . وكان الذي تولى ذلك رجل منهم - يقال له : [ لبيد ]{[30861]} بن أعصم - ثم دسها في بئر لبني زُرَيق ، ويقال لها : ذَرْوان ، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه ، ولبث ستة أشهر يُرَى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وجعل يَذُوب ولا يدري ما عراه . فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فَقَعَد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما بال الرجل ؟ قال : طُبَّ . قال : وما طُبَّ ؟ قال : سحر . قال : ومن سحره ؟ قال : لبيد بن أعصم اليهودي . قال : وبم طَبَّه ؟ قال : بمشط ومشاطة . قال : وأين هو ؟ قال : في جُفِّ طلعة تحت راعوفة في بئر ذَرْوَان - والجف : قشر الطلع ، والراعوفة : حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح - فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعورًا ، وقال : " يا عائشة ، أما شعرت أن الله أخبرني بدائي ؟ " . ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وعمار بن ياسر ، فنزحوا ماء البئر كأنه نُقاعة الحناء ، ثم رفعوا الصخرة ، وأخرجوا الجف ، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه ، وإذا فيه وتر معقود ، فيه اثنتا عشرة{[30862]} عقدة مغروزة بالإبر . فأنزل الله تعالى السورتين ، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حين انحلت العقدة الأخيرة ، فقام كأنما نَشطَ من عقال ، وجعل جبريل ، عليه السلام ، يقول : باسم الله أرْقِيك ، من كل شيء يؤذيك ، من حاسد وعين الله يشفيك . فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نأخذ الخبيث نقتله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن يثير على الناس شرًا " {[30863]} .

هكذا أورده بلا إسناد ، وفيه غرابة ، وفي بعضه نكارة شديدة ، ولبعضه شواهد مما تقدم ، والله أعلم .


[30846]:في أ: "إلى".
[30847]:تفسير الطبري (30/227).
[30848]:رواه مسلم في صحيحه برقم (2186) من حديث أبي سعيد، رضي الله عنه.
[30849]:زيادة من المسند.
[30850]:في م: "فحلها".
[30851]:زيادة من المسند.
[30852]:المسند (4/367) وسنن النسائي (7/112).
[30853]:زيادة من صحيح البخاري.
[30854]:في أ: "فاستخرجه".
[30855]:زيادة من صحيح البخاري.
[30856]:صحيح البخاري برقم (5765).
[30857]:صحيح البخاري برقم (5863، 6391، 5766).
[30858]:في م: "وهب".
[30859]:صحيح مسلم برقم (2189) والمسند (6/96).
[30860]:المسند (6/63).
[30861]:زيادة من م، أ.
[30862]:في م، أ: "فيه اثنا عشر".
[30863]:الكشف والبيان للثعلبي "ق 194 المحمودية".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

{ ومن شر النفاثات في العقد } ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ، والنفث النفخ مع ريق ، وتخصيصه لما روي أن يهوديا سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة في وتر دسه في بئر فمرض النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت المعوذتان ، وأخبره جبريل عليه الصلاة والسلام بموضع السحر ، فأرسل عليا رضي الله تعالى عنه فجاء به ، فقرأهما عليه ، فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد بعض الخفة ، ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في أنه مسحور ؛ لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحر ، وقيل : المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل ، مستعار من تليين العقد بنفث الريق ليسهل حلها ، وإفرادها بالتعريف ؛ لأن كل نفاثة شريرة بخلاف كل غاسق وحاسد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

و { النفاثات في العقد } السواحر ، ويقال : إن الإشارة أولاً إلى بنات لبيد بن الأعصم اليهودي كن ساحرات ، وهن اللواتي سحرن مع أبيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعقدن له إحدى عشرة عقدة ، فأنزل الله تعالى إحدى عشرة آية بعد العقد ، هي المعوذتان ، فشفى الله النبي صلى الله عليه وسلم{[12040]} ، والنفث شبه النفخ دون تفل ريق ، وهذا النفث هو على عقد تعقد في خيوط ونحوها على اسم المسحور فيؤذى بذلك ، وهذا الشأن في زمننا موجود شائع في صحراء المغرب ، وحدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطاً أحمر قد عقد فيه عقد على فصلان ، فمنعت بذلك رضاع أمهاتها ، فكان إذا حل جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع ، أعاذنا الله من شر السحر والسحرة بقدرته .

وقرأ عبد الله بن القاسم والحسن وابن عمر : «النافثات في العقد » .


[12040]:روى البخاري في كتاب الطب من صحيحه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن) وهو حديث طويل... جاء في آخره (فقال : أما الله فقد شفاني....)، ورواه مسلم من حديث أبي أسامة وعبد الله بن نمير، ورواه أحمد عن عفان، عن وهب، عن هشام، ورواه احمد أيضا عن إبراهيم ابن خالد، عن معمر، عن هشام، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ} (4)

هذا النوع الثاني من الأنواع الخاصة المعطوفة على العام من قوله : { من شر ما خلق } [ الفلق : 2 ] . وعُطف { شر النفاثات في العقد } على شر الليل لأن الليل وقت يتحين فيه السحَرة إجراء شعوذتهم لئلا يطلع عليهم أحد .

والنفث : نفخ مع تحريك اللسان بدون إخراج ريق فهو أقل من التفل ، يفعله السحرة إذا وضعوا علاج سحرهم في شيء وعَقدوا عليه عُقَداً ثم نفثوا عليها .

فالمراد ب { النفاثات في العقد } : النساء الساحرات ، وإنما جيء بصفة المؤنث لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحرَ النساء لأن نساءهم لا شغل لهن بعد تهيئة لوازم الطعام والماء والنظافة ، فلذلك يكثر انكبابهن على مثل هاته السفاسف من السحر والتَّكهن ونحو ذلك ، فالأوهام الباطلة تتفشى بينهن ، وكان العرب يزعمون أن الغُول ساحرةٌ من الجِن . وورد في خبر هجرة الحبشة أن عمارة بن الوليد بن المغيرة اتُّهم بزوجة النجاشي وأن النجاشي دعَا له السوَاحر فنفخن في إحليله فصار مسلوب العقل هائماً على وجهه ولحق بالوحوش .

و{ العُقد } : جمع عقدة وهي ربط في خيط أو وَتَر يزعم السحرة أنه سحر المسحور يستمر ما دامت تلك العقد معقودة ، ولذلك يخافون من حَلها فيدفنونها أو يخبئونها في محل لا يُهتدى إليه . أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من شر السحرة لأنه ضمن له أن لا يلحقه شر السحرة ، وذلك إبطال لقول المشركين في أكاذيبهم إنه مسحور ، قال تعالى : { وقال الظالمون إنْ تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } [ الفرقان : 8 ] .

وجملة القول هنا : أنه لما كان الأصح أن السورة مكية فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمون من أن يصيبه شر النفاثات لأن الله أعاذه منها .

وأمّا السحر فقد بسطنا القول فيه عند قوله تعالى : { يعلِّمون الناس السحر } في سورة البقرة ( 102 ) .

وإنما جعلت الاستعاذة من النفاثات لا من النفْث ، فلم يقل : إذا نفثن في العقد ، للإِشارة إلى أن نفثهن في العُقد ليس بشيء يجلب ضراً بذاته وإنما يجلب الضر النافثاتُ وهن متعاطيات السحر ، لأن الساحر يحرص على أن لا يترك شيئاً مما يحقق له ما يعمله لأجله إلاّ احتال على إيصاله إليه ، فربما وضع له في طعامه أو شرابه عناصر مفسدة للعقل أو مهلكة بقصد أو بغير قصد ، أو قاذورات يُفسد اختلاطُها بالجسد بعضَ عناصر انتظام الجسم يختلّ بها نشاط أعصابه أو إرادته ، وربما أغرى به من يغتاله أو من يتجسس على أحواله ليُرِي لمن يسألونه السحر أن سحره لا يتخلف ولا يخطىء .

وتعريف { النفاثات } تعريف الجنس وهو في معنى النكرة ، فلا تفاوت في المعنى بينه وبين قوله : { ومن شر غاسق } [ الفلق : 3 ] وقوله : { ومن شر حاسد } [ الفلق : 5 ] . وإنما أوثر لفظ { النفاثات } بالتعريف لأن التعريف في مثله للإِشارة إلى أن حقيقة معلومة للسامع مثل التعريف في قولهم : « أرسلها العراك » كما تقدم في قوله تعالى : { الحمد للَّه } في سورة الفاتحة ( 2 ) .

وتعريف { النفاثات } باللام إشارة إلى أنهن معهودات بين العرب .