يقول تعالى مخبرًا عن نفسه الكريمة : أنه قد أرسل رسوله محمدًا بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض ، عربهم وعجمهم ، أميهم وكتابيّهم ، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل ، فقال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } أي : يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه ، وافتروا على الله فيه ، ويسكت{[9436]} عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه .
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من حديث الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ، قوله : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } فكان الرجم مما أخفوه . {[9437]}
ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . {[9438]}
ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } .
{ يا أهل الكتاب } يعني اليهود والنصارى ، ووحد الكتاب لأنه للجنس . { قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب } كنت محمدا صلى الله عليه وسلم وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى عليه الصلاة والسلام بأحمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل . { ويعفو عن كثير } مما تخفونه لا يخبر به إذا لم يضطر إليه أمر ديني ، أو عن كثير منكم فلا يؤخذاه بجرمه . { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } يعني القرآن فإنه الكاشف لظلمات الشك والضلال والكتاب الواضح الإعجاز . وقيل يريد بالنور محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { يا أهل الكتاب } لفظ يعم اليهود والنصارى ولكن نوازل الإخفاء كالرجم وغيره إنما حفظت لليهود ، لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره . وقال محمد بن كعب القرظي : أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى ، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع وقوله : { رسولنا } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، وفي الآية الدالة على صحة نبوته ، لأن إعلامه بخفيّ ما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يصحب القرأة دليل على أن ذلك إنما يأتيه من عند الله تبارك وتعالى ، وأشهر النوازل التي أخفوها فأظهرها الله على لسان نبيه أمر الرجم ، وحديثه مشهور{[4498]} . ومن ذلك صفات محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك . و { من الكتاب } يعني من التوراة وقوله : { ويعفو عن كثير } معناه ويترك كثيراً لا يفضحكم فيه إبقاء عليكم . وهذا المتروك هو في معنى افتخارهم ووصفهم أيام الله قبلهم ونحو ذلك مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم فيه وتكذيبهم ، والفاعل في { يعفو } هو محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يستند الفعل إلى الله تعالى وإذا كان العفو من النبي عليه السلام فبأمر ربه ، وإن كان من الله تعالى فعلى لسان نبيه عليه السلام ، والاحتمالان قريب بعضهما من بعض .
قوله عز وجل : { نور وكتاب مبين } يحتمل أن يريد محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وهذا هو ظاهر الألفاظ ، ويحتمل أن يريد موسى عليه السلام والتوراة ، أي ولو اتبعتموها حق الاتباع لآمنتم بمحمد ، إذ هي آمرة بذلك مبشرة به ، وقرأ عبيد بن عمير والزهري وسلام وحميد ومسلم بن جندب «بهُ اللهُ » بضم الهاء حيث وقع مثله .
بعد أن ذكر من أحوال فريقي أهل الكتاب وأنبَائهم ما لا يعرفه غير علمائهم وما لا يستطيعون إنكاره أقبل عليهم بالخطاب بالموعظة ؛ إذ قد تهيَّأ من ظهور صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ما يسهّل إقامة الحجّة عليهم ، ولذلك ابتدىء وصفُ الرسول بأنّه يبيَّن لهم كثيراً ممّا كانوا يخفون من الكتاب ، ثم أعقبه بأنَّه يعفو عن كثير .
ومعنى { يعفو } يُعرض ولا يُظهر ، وهو أصل مادّة العفو . يقال : عفا الرسم ، بمعنى لم يظهر ، وعفاه : أزال ظهوره . ثم قالوا : عفا عن الذنب ، بمعنى أعرض ، ثم قالوا : عفا عن المذنب ، بمعنى ستر عنه ذنبه ، ويجوز أن يراد هنا معنى الصفح والمغفرة ، أي ويصفح عن ذنوب كثيرة ، أي يبيّن لكم دينكم ويعفو عن جلهكم .
وجملة { قد جاءكم من الله نور } بدل من جملة { قد جاءكم رسولنا } بدل اشتمال ، لأنّ مجيء الرسول اشتمَل على مجيء الهُدى والقرآن ، فوزانها وزان ( عِلمُه ) من قولهم : نفعني زيد علمه ، ولذلك فصلت عنها ، وأعيد حرف ( قَد ) الداخل على الجملة المبدل منها زيادة في تحقيق مضمون جملة البدل ، لأنّ تعلّق بدل الاشتمال بالمبدل منه أضعف من تعلّق البدل المطابق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.