في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ} (15)

وحين يبلغ السياق هذا الموضع من استعراض موقف اليهود والنصارى من ميثاقهم مع الله . . وجهوا الخطاب لأهل الكتاب جميعا . . هؤلاء وهؤلاء . . لإعلانهم برسالة خاتم النبيين ؛ وإنها جاءت إليهم – كما جاءت للعرب الأميين ، وللناس أجمعين . فهم مخاطبون بها ، مأمورون باتباع الرسول الأخير - وهذا طرف من ميثاق الله معهم كما سلف - وأن هذا الرسول الأخير قد جاء يكشف لهم عن كثير مما كانوا يخفونه من الكتاب الذي بين أيديهم ؛ والذي استحفظوا عليه فنقضوا عهدهم مع الله فيه ؛ ويعفو كذلك عن كثير مما أخفوه ، ولم تعد هناك ضرورة له في الشريعة الجديدة . . ثم يتعرض لبعض الانحرافات التي جاء الرسول الأخير ليقومها في معتقداتهم : كقول النصارى : إن المسيح عيسى بن مريم هو الله . وكقولهم هم واليهود نحن أبناء الله وأحباؤه . . ويختم هذا النداء بأنه لن تكون لهم حجة عندالله بعد الرسالة الكاشفة المبينة المنيرة ؛ ولن يكون لهم أن يقولوا : إنه مرت عليهم فترة طويلة بعد الرسالات فنسوا ولبس الأمر عليهم :

{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير . قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ؛ ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم . . لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح بن مريم . قل : فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ؟ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، يخلق ما يشاء ، والله على كل شيء قدير . . وقالت اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه . قل : فلم يعذبكم بذنوبكم ؟ بل أنتم بشر ممن خلق ، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ؛ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، وإليه المصير . . يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم - على فترة من الرسل - أن تقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير . فقد جاءكم بشير ونذير . والله على كل شيء قدير } .

لقد كان أهل الكتاب يستكثرون أن يدعوهم إلى الإسلام نبي ليس منهم . . نبي من الأميين الذين كانوا يتعالون عليهم من قبل ويتعالمون ؛ لأنهم هم أهل الكتاب وهؤلاء أميون ! فلما أراد الله الكرامة لهؤلاء الأميين بعث منهم خاتم النبيين ، وجعل فيهم الرسالة الأخيرة ، الشاملة للبشر أجمعين . وعلم هؤلاء الأميين ، فإذا هم أعلم أهل الأرض ؛ وأرقاهم تصوراً واعتقاداً ؛ وأقومهم منهجاً وطريقاً ، وأفضلهم شريعة ونظاماً ، وأصلحهم مجتمعاً وأخلاقاً . . وكان هذا كله من فضل الله عليهم ؛ ومن إنعامه بهذا الدين وارتضائه لهم . . وما كان للأميين أن يكونوا أوصياء على هذه البشرية لولا هذه النعمة ؛ وما كان لهم - وليس لهم بعد - من زاد يقدمونه للبشرية إلا ما يزودهم به هذا الدين . .

وفي هذا النداء الإلهي لأهل الكتاب ، يسجل عليهم أنهم مدعوون إلى الإسلام . مدعوون للإيمان بهذا الرسول ونصره وتأييده ، كما أخذ عليهم ميثاقه . ويسجل عليهم شهادته - سبحانه - بأن هذا النبي الأمي هو رسوله إليهم - كما أنه رسول إلى العرب ، وإلى الناس كافة - فلا مجال لإنكار رسالته من عند الله أولاً ؛ ولا مجال للادعاء بأن رسالته مقتصرة على العرب ، أو ليست موجهة إلى أهل الكتاب ثانياً :

{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا ، يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير } . .

فهو رسول الله إليكم . ودوره معكم أن يبين لكم ويوضح ويكشف ، ما تواطأتم على إخفائه من حقائق كتاب الله الذي معكم . . سواء في ذلك اليهود والنصارى . . وقد أخفى النصارى الأساس الأول للدين . . التوحيد . . وأخفى اليهود كثيراً من أحكام الشريعة ؛ كرجم الزاني ، وتحريم الربا كافة . كما أخفوا جميعاً خبر بعثة النبي الأمي { الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } . . كما أنه - صلى الله عليه وسلم - يعفو عن كثير مما أخفوه أو حرفوه ؛ مما لم يرد به شرعه . فقد نسخ الله من أحكام الكتب والشرائع السابقة ما لم يعد له عمل في المجتمع الإنساني ، مما كانت له وظيفة وقتية في المجتمعات الصغيرة الخاصة ، التي بعث إليها الرسل من قبل ولفترة محدودة - في علم الله - من الزمان ، قبل أن تجيء الرسالة الشاملة الدائمة ، وتستقر - وقد أكملها الله وأتم بها نعمته ورضيها للناس دينا - فلم يعد فيها نسخ ولا تبديل ولا تعديل .

ويبين لهم طبيعة ما جاء به هذا الرسول ، ووظيفته في الحياة البشرية ، وما قدر الله من أثره في حياة الناس .

( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم ) . .

وليس أدق ولا أصدق ولا أدل على طبيعة هذا الكتاب . . القرآن . . وعلى طبيعة هذا المنهج . . الإسلام . . من أنه ( نور ) . .

إنها حقيقة يجدها المؤمن في قلبه وفي كيانه وفي حياته وفي رؤيته وتقديره للأشياء والأحداث والأشخاص . . يجدها بمجرد أن يحد حقيقة الإيمان في قلبه . . ( نور ) نور تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف . ويشرق به كل شيء أمامه فيتضح ويتكشف ويستقيم .

ثقلة الطين في كيانه ، وظلمة التراب ، وكثافة اللحم والدم ، وعرامة الشهوة والنزوة . . كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى . . تخف الثقلة ، وتشرق الظلمة ، وترق الكثافة ، وترف العرامة . .

واللبس والغبش في الرؤية ، والتأرجح والتردد في الخطوة ، والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه . . كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى . . يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق . .

( نور . وكتاب مبين ) . . وصفان للشيء الواحد . . لهذا الذي جاء به الرسول الكريم . .