البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ} (15)

{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير } قال محمد بن كعب القرظي : أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى ، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع .

وأهل الكتاب يعم اليهود والنصارى .

فقيل : الخطاب لليهود خاصة ، ويؤيده ما روى خالد الحذاء عن عكرمة قال : أتى اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الرجم ، فاجتمعوا في بيت فقال : »أيكم أعلم » ؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فقال : »أنت أعلمهم » قال : سل عما شئت قال : »أنت أعلمهم » ؟ قال إنهم يقولون ذلك ، قال : «فناشدتك الله الذي أنزل التوراة على موسى ، والذي رفع الطور فناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه إفكل ، فقال : إنّ نساءنا نساء حسان فكثر فينا القتل ، فاختصرنا فجلدنا مائة مائة ، وحلقنا الرؤوس ، وخالفنا بين الرؤوس على الدابرات أحسبه قال : الإبل .

قال : فأنزل الله يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا .

وقيل : الخطاب لليهود والنصارى الذين يخفون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجم ونحوه .

وأكثر نوازل الإخفاء إنما نزلت لليهود ، لأنهم كانوا مجاوري الرسول في مهاجره .

والمعنى بقوله : رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأضيف إلى الله تعالى إضافة تشريف .

وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوّته ، لأنّ إعلامه بما يخفون من كتابهم وهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب ولا يصحب القرّاء ، دلالة على أنه إنما يعلمه الله تعالى .

وقوله : من الكتاب ، يعني التوراة ، ويعفو عن كثير أي : مما يخفون لا يبينه إذا لم تدع إليه مصلحة دينية ، ولا يفضحكم بذلك إبقاء عليكم .

وقال الحسن : ويعفو عن كثير ، هو ما جاء به الرسول من تخفيف ما كان شدّد عليهم ، وتحليل ما كان حرم عليهم .

وقيل : لا يؤاخذكم بها ، وهذا المتروك الذي لا يبين هو في معنى افتخارهم ونحوه مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم به وتكذيبهم ، والظاهر أن فاعل يبين ويعفو عائد على رسولنا ، ويجوز أن يعود على الله تعالى .

{ قد جاءكم نور من الله وكتاب مبين } قيل : هو القرآن سماه نوراً لكشف ظلمات الشرك والشك ، أو لأنه ظاهر الإعجاز .

وقيل : النور الرسول .

وقيل : الإسلام .

وقيل : النور موسى ، والكتاب المبين التوراة .

ولو اتبعوها حق الاتباع لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ هي آمرة بذلك مبشرة به .