تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (46)

فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم ، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا ، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه بل يستعينوا{[13051]} به ويتكلوا عليه ، ويسألوه النصر على أعدائهم ، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك . فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا ، وما نهاهم عنه انزجروا ، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم .

{ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي : قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال ، { وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }

وقد كان للصحابة - رضي الله عنهم - في باب الشجاعة والائتمار بأمر{[13052]} الله ، وامتثال ما أرشدهم إليه - ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ، ولا يكون لأحد ممن بعدهم ؛ فإنهم ببركة الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب{[13053]} والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة ، مع قلة عَدَدهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم ، من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبُوش وأصناف السودان والقبْط ، وطوائف بني آدم ، قهروا الجميع حتى عَلَتْ كلمة الله ، وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت{[13054]} الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ، وحشرنا في زمرتهم ، إنه كريم وهاب .


[13051]:في د: "يستغيثوا".
[13052]:في د، ك، م: "بأوامر".
[13053]:في م: "الثغور".
[13054]:في د: "واشتهرت".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (46)

{ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا } باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر أو أحد . { فتفشلوا } جواب النهي . وقيل عطف عليه ولذلك قرئ : { وتذهب ريحكم } بالجزم ، والريح مستعارة للدولة من حيث إنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بها في هبوبها ونفوذها . وقيل المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله وفي الحديث " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " . { واصبروا إن الله مع الصابرين } بالكلاءة والنصرة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (46)

وقوله { وأطيعوا الله ورسوله } الآية استمرار على الوصية لهم والأخذ على أيديهم في اختلافهم في أمر بدر وتنازعهم ، و { تفشلوا } نصب بالفاء في جواب النهي ، قال أبو حاتم في كتاب عن إبراهيم «فتفشِلو » بكسر الشين وهذا غير معروف{[5393]} وقرأ جمهور الناس «وتذهبَ » بالتاء من فوق ونصب الباء ، وقرأ هبيرة عن حفص عن عاصم «وتذهبْ ريحكم » بالتاء وجزم الباء ، وقرأ عيسى بن عمر «ويذهبْ » بالياء من تحت وبجزم يذهب ، وقرأ أبو حيوة «ويذهبَ » بالياء من تحت ونصب الباء ، ورواها أبان وعصمة عن عاصم ، والجمهور على أن الريح هنا مستعارة والمراد بها النصر والقوة كما تقول : الريح لفلان إذا كان غالباً في أمر ، ومن هذا المعنى قول الشاعر وهو عبيد بن الأبرص : [ البسيط ]

كما حميناك يوم العنف من شطبٍ*** والفضل للقوم من ريح ومن عدد{[5394]}

وقال مجاهد : «الريح » النصر والقوة ، وذهبت ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد ، وقال زيد بن علي { وتذهب ريحكم } معناه الرعب من قلوب عدوكم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن بشرط أن يعلم العدو بالتنازع ، وإذا لم يعلم فالذاهب قوة المتنازعين فيهزمون ، وقال شاعر الأنصار : [ البسيط ]

قد عوَّدَتْهمْ ظباهم أن تكونَ لهمْ*** ريحُ القتالِ وأسلابُ الذين لقوا{[5395]}

ومن استعارة الريح قول الآخر : [ الوافر ]

إذا هبت رياحك فاغتنمها*** فإن لكل عاصفة سكون{[5396]}

وهذا كثير مستعمل وقال ابن زيد وغيره : الريح على بابها ، وروي أن النصر لم يكن قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار ، واستند بعضهم في هذه المقالة إلى قوله صلى الله عليه وسلم : «نصرت بالصبا »{[5397]} وقال الحكم { وتذهب ريحكم } يعني الصبا إذ بها نصر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته .

قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما كان في غزوة الخندق خاصة ، وقوله { واصبروا } إلى آخر الآية ، تتميم في الوصية وعدة مؤنسة .


[5393]:- جاء في "التاج": "فشل يفشل ككتب يكتب، وبه قرئ [فتفشلوا]، وفشل يفشل كضرب يضرب، وبه قرأ الحسن البصري، وهما لغتان نقلهما الصاغاني. ولهذا عقب أبو حيان في البحر على كلام أبي حاتم فقال: "وقال غيره: هي لغة".
[5394]:- شطب: اسم جبل بديار بني أسد، وفي معجم ما استعجم للبكري: "بديار بني تميم"، والنّعف: أسفل الجبل، أو المكان المرتفع في اعتراض، والفضل للقوم: الريح معهم والعدد لهم، ويروى البيت: "من صوت ومن غرد" ويريد بالغرد الصوت، والمعنى- على هذه الرواية الثانية- أن لهم صوتا وجلبة يهزمون بها العدو.
[5395]:- الظُّبَةُ: حد السيف وما أشبهه، والجمع: ظُبا وظُبات وظبون. وريح القتال: النصر والغلبة فيه. والأسلاب: جمع سلب وهو ما مع القتيل من مال وسلاح ودابة. ولقوا: قابلوهم في الحرب. والمعنى: النصر دائما لهم.
[5396]:- يروى: "لكل خافقة" بدلا من "لكل عاصفة"، والقافية مرفوعة، واسم (إن) هنا ضمير الشأن، والخبر قوله: "لكل خافقة سكون"، وهذا تصحيح لمن روى البيت: "فإن لكل عاصفة سكونا" بالنصب، فالخطأ واضح، والدليل أن من هذه القصيدة البيت المعروف: ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون.
[5397]:- (نُصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور)، رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهناك حديث آخر نصه: (نُصرت بالصبا وكانت عذابا على من كان قبلي)، رواه الشافعي عن محمد بن عمر مرسلا، ذكر ذلك الإمام السيوطي في "الجامع الصغير"، ورمز إلى الحديث الأول بالصحة، ورمز إلى الثاني بالضعف. والصبا: ريح مهبّها من مشرق الشمس إذا استوى الليل والنهار (مؤنث)، والدبور: ريح تهب من المغرب وتقابل القبول وهي الصبا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (46)

أمرهم الله بشيء يعمّ نفعه المرء في نفسه وفي علاقته مع أصحابه ، ويسهل عليهم الأمور الأربعة ، التي أمروا بها آنفاً في قوله : { فاثبتوا واذكروا الله كثيراً } وفي قوله : { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا } الآية . ألاَ وهو الصبر ، فقال : { واصبروا } لأنّ الصبر هو تحمّل المكروه ، وما هو شديد على النفس ، وتلك المأمورات كلّها تحتاج إلى تحمّل المكاره ، فالصبر يجمع تحمّل الشدائد والمصاعب ، ولذلك كان قوله : { واصبروا } بمنزلة التذييل .

وقوله : { إن الله مع الصابرين } إيماء إلى منفعة للصبرِ إلهيةٍ ، وهي إعانة الله لمن صبر امتثالاً لأمره ، وهذا مشاهد في تصرفات الحياة كلها .

وجملة { إن الله مع الصابرين } قائمة مقام التعليل للأمر ، لأنّ حرف التأكيد في مثل هذا قائم مقام فاء التفريع ، كما تقدّم في مواضع .