تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ} (16)

وقوله : { مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ } و " وراء " ها هنا بمعنى " أمام " ، كما قال تعالى : { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } [ الكهف : 79 ] ، وكان ابن عباس يقرؤها " وكان أمامهم ملك " .

أي : من وراء الجبار العنيد جهنم ، أي : هي له بالمرصاد ، يسكنها مخلدا يوم المعاد ، ويعرض عليها غدوا وعشيا إلى يوم التناد .

{ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ } أي : في النار ليس له شراب إلا من حميم أو غساق ، فهذا{[15783]} في غاية الحرارة ، وهذا في غاية البرد والنتن ، كما قال : { هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ ص : 57 ، 58 ] .

وقال مجاهد ، وعكرمة : الصديد : من القيح والدم .

وقال قتادة : هو ما يسيل من لحمه وجلده . وفي رواية عنه : الصديد : ما يخرج من جوف الكافر ، قد خالط القيح والدم .

ومن حديث شَهْر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : قلت : يا رسول الله ، ما طينة الخبال ؟ قال : " صديد أهل النار " {[15784]} وفي رواية : " عُصَارة أهل النار " {[15785]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله ، أنا صفوان بن عمرو ، عن عبيد الله بن بُرْ ، عن أبي أمامة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ } قال : " يُقَرَّبُ إليه فيتكرهه ، فإذا أدنى منه شَوى وجهه ، ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره . يقول الله تعالى{[15786]} { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } [ محمد : 15 ] ، ويقول : { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ } {[15787]} [ الكهف : 29 ] .

وهكذا رواه ابن جرير ، من حديث عبد الله بن المبارك ، به{[15788]} ورواه هو وابن أبي حاتم : من حديث بَقِيَّة ابن الوليد ، عن صفوان بن عمرو ، به{[15789]} .


[15783]:- في ت ، أ : "فهذا حار".
[15784]:- رواه أحمد في المسند (6/460).
[15785]:- وهي رواية أبي ذر ، رضي الله عنه ، رواها أحمد في المسند (5/171).
[15786]:- في أ : "عز وجل".
[15787]:- المسند (5/265).
[15788]:- تفسير الطبري (16/549) ورواه الترمذي في السنن برقم (2583) من طريق عبد الله بن المبارك به ، وقال : "هذا حديث غريب ، وهكذا قال محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن بسر ، ولا نعرف عبيد الله بن بسر إلا في هذا الحديث".
[15789]:- ورواه الطبري في تفسيره (16/551) من طريق حيوة بن شريح عن بقية به.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ} (16)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول عزّ ذكره:"من ورائه"، من أمام كل جَبار "جهنم"، يَرِدُونها.

و"وراء "في هذا الموضع، يعني أمام، كما يقال: "إن الموت مِنْ ورائك"، أي قُدّامك... وقوله: "وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ"، يقول: ويسقى من ماءٍ، ثم بيَّن ذلك الماء جل ثناؤه وما هو، فقال: هو "صديد"، ولذلك رد الصَّديد في إعرابه على الماء، لأنه بيَانٌ عنه... و "الصديد"، هو القَيْحُ والدم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

يريد الكافر يأتيه العذاب فيما بين يديه من الزمان، وعلى ما خَلْفَه؛ أي لأجل ما سلف من الماضي من قبيح أفعاله، ويُسْقَى من النار ما يشربه جرعة بعد جرعة، فلصعوبته ومرارته لا يشربه مرةً واحدةً.

{وَيَأْتِيِهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}. يرى العذابَ- من شدته -في كل عضو، وفي كل وقت، وفي كل مكان وليس ذلك الموت؛ لأنَّ أهلَ النار لا يموتون، ولكنه في الشدة كالموت.

ثم {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}: وهو الخلود في النار، وهذا جزاء مَنْ اغترَّ بأيامٍ قلائل ساعدته المشيئةُ فيها، وانخدع فلم يشرع بما يليها...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

هذا وصف حاله وهو في الدنيا، لأنه مرصد لجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها، أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف.

فإن قلت: علام عطف {ويسقى}؟ قلت: على محذوف تقديره: من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد، كأنه أشد عذابها فخصص بالذكر مع قوله: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ}...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

«الوراء» هنا على بابه، أي هو ما يأتي بعد في الزمان، وذلك أن التقدير في هذه الحوادث بالأمام والوراء إنما هو بالزمان، وما تقدم فهو أمام وهو بين اليد...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم قال: {ومن ورآئه جهنم} أي ومن بعد الخيبة يدخل جهنم...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

أي: من وراء الجبار العنيد جهنم، أي: هي له بالمرصاد، يسكنها مخلدا يوم المعاد، ويعرض عليها غدوا وعشيا إلى يوم التناد.

{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} أي: في النار ليس له شراب إلا من حميم أو غساق، فهذا في غاية الحرارة، وهذا في غاية البرد والنتن، كما قال: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم أتبعه ما هو كالدليل على خيبته من أن سيره إلى ما أمامه من العذاب، فهو واقع فيه لا محالة وهو لا يشعر، وعبر عن غفلته عنه بقوله: {من ورائه جهنم} أي لا بد أنه يتبوأها...

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

{من ورائه جهنم} جملة في محل جر صفة ل {جبار} كناية عن تطلبها له وترصدها إياه، ومن تطلب شيئا وترصده أدركه لا محالة...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

قوله: {من ورائه جهنم} صفة ل {جبار عنيد}، أي خاب الجبّار العنيد في الدنيا وليس ذلك حظه من العقاب بل وراءه عقاب الآخرة.

والوراء: مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد، فاستعير لذلك بجامع الغفلة عن الحصول كالشيء الذي يكون من وراء المرء لا يشعر به لأنه لا يراه، كقوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} [سورة الكهف: 79]، أي وهم غافلون عنه ولو ظفر بهم لافتك سفينتهم...

وأما إطلاق الوراء على معنى (من بَعْد) فاستعمال آخر قريب من هذا وليس عينه.

والمعنى: أن جهنم تنتظره، أي فهو صائر إليها بعد موته.

والصديد: المُهلة، أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه، وجعل الصديد ماء على التشبيه البليغ في الإسقاء، لأن شأن الماء أن يُسْقى. والمعنى: ويسقى صديداً عوض الماء إن طلب الإسقاء، ولذلك جعل {صديد} عطفَ بيان ل {ماء}. وهذا من وجوه التشبيه البليغ.

وعطف جملة {يسقى} على جملة {من ورائه جهنم} لأن السقي من الصديد شيء زائد على نار جهنم.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

... مع أنّ كلمة «وراء» بمعنى «الخلف» في مقابل أمام، إلاّ أنّها في هذه الموارد تعني نتيجة وعاقبة العمل...