اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ وَيُسۡقَىٰ مِن مَّآءٖ صَدِيدٖ} (16)

ثم ذكر كيفية عذابهن فقال : " مِنْ وَرائِهِ " جملة في محلّ جر صفة ل " جبَّارٍ " ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار ، و " جهنم " فاعل به .

وقوله : " ويسقى " صفة معطوفة على الصفة قبلها . عطف جملة فعلية على اسمية فإن جعلت الصفة الجار وحده ، وعلقته بفعل كان من عطف فعلية على فعلية .

وقيل : عطف على محذوف ، أي : يلقى فيها ، ويُسْقَى .

و " وَرَاءِ " هنا على بابها ، وقيل بمعنى أمام ، فهو من الأضداد ، وهذا عنى الزمخشري بقوله : " مِنْ بَيْنِ يَديْهِ " وأنشد : [ الوافر ]

عَسَى الكَرْبُ الَّذي أمْسَيْتُ فِيهِ *** يَكونُ وَراءَهُ فَرجٌ قَرِيب{[19181]}

وهو قول أبي عبيدة و ابن السِّكيت ، وقطرب ، وابن جريرٍ ؛ وقال الشاعر في ذلك : [ الطويل ]

أيَرْجُو بنُو مَرْوان سَمْعِي وطَاعتِي *** وقَوْمُ تَميمٍ والفَلاةُ وَرَائِيَا{[19182]}

أي : قُدَّامي ؛ وقال الآخر : [ الطويل ]

أليْسَ وَرائِي إنْ تَراخَتْ مَنيَّتِي *** لزومُ العَصَا عليْهَا الأصابِعُ{[19183]}

وقال ثعلب : هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك ، أم قدامك فيصح إطلاق لفظ الوراء على الحذف وقدام ، ويقال : المَوْتُ وراء كُلُّ أحدٍ ، وقال تعالى : { وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] أي : أمامهم .

وقال ابن الأنباري : وراء بمعنى بعد ، قال الشاعر : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وليْسَ ورَاءَ اللهِ للْخَلْقِ مَهْرَبُ{[19184]}

ومعنى الآية : أنه بعد الخيبة يدخلهم جهنم .

قوله : { مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ } في " صديد " ثلاثة أوجه :

أحدها : أنَّه نعت ل " مَاءٍ " . وفي تأويلان :

أحدهما : أنه على حذف أداة التشبيه ، أي : ماء مثل صديد ، وعلى هذا فليس الماء الذي تشربونه صديداً ، بل مثله في النَّتنِ ، والغلظ ، والقذارة ، كقوله تعالى : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٍ كالمهل } [ الكهف : 29 ] .

والثاني : أنَّ الصديد لما كان يشبه الماء أطلق عليه ماء ، وليس هو بماء حقيقة ، وعلى هذا فيكون يشربون نفس الصديد المشبه للماء ، وهو قول ابن عطية ، وإلى كونه صفة ذهب الحوفي وغيره . وفيه نظرٌ ، إذ ليس بمشتق إلاَّ على من فسَّره بأنه صديد بمعنى مصدود ، أخذه من الصَّدِّ ، وكأنه لكراهته مصدودٌ عنه ، أي : يمتنع عليه كل أحد .

الثاني : أنه عطف بيان ل " مَاءٍ " ، وإليه ذهب الزمخشري ، وليس مذهب البصريين [ جريانه ]{[19185]} في النكرات إنَّما قال به الكوفيون وتبعهم الفارسي أيضاً .

الثالث : أن يكون بدلاً ، وأعرب الفارسي " زَيْتُونةٍ " من قوله تعالى { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } [ النور : 35 ] عطف بيان أيضاً .

واستدلّ من جوَّز كونه عطف بيان ، ومتبوعه نكرتين بهاتين الآيتين .

والصَّديد : ما يسيلُ من أجسادٍ أهلِ النَّار . وقيل : ما حَالَ بين الجلدِ واللَّحمِ من القَيْحِ .


[19181]:تقدم.
[19182]:البيت لسوار بن المضرب. ينظر: الكامل 2/102، مجاز القرآن 1/227، البحر المحيط 5/402، الجمهرة 1/177، 3/495، اللسان (ورى)، تفسير القرطبي 10/350، 11/35، روح المعاني 13/201، الطبري 16/2، الأضداد (20)، فتح القدير 3/100، الدر المصون 4/357.
[19183]:البيت للبيد. ينظر: ديوانه 170، اللسان (ورى)، البحر المحيط 5/402، القرطبي 9/230، روح المعاني 13/201، تهذيب اللغة 15/304، الدر المصون 4/257.
[19184]:عجز وصدره: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** ....................... وهو للنابغة. ينظر: ديوانه (27)، معاهد التنصيص 3/48، الألوسي 13/201، الرازي 19/104، القرطبي 5/386، البحر المحيط 5/401، فتح القدير 3/100.
[19185]:في ب: بأنه.