تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالَ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰٓؤُلَآءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰفِرۡعَوۡنُ مَثۡبُورٗا} (102)

أي : حججًا وأدلة على صدق ما جئتك به { وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا } أي : هالكًا . قاله مجاهد وقتادة . وقال ابن عباس ملعونًا . وقال : أيضًا هو والضحاك : ( مَثْبُورًا ) أي : مغلوبًا . والهالك - كما قال مجاهد - يشمل{[17881]} هذا كله ، قال عبد الله بن الزبعري :

إذْ أجَارِي الشَّيطانَ في سَنن الغ *** يِّ وَمَنْ مَالَ مَيْلهُ مَثْبُور{[17882]}

[ بمعنى هالك ]{[17883]} .

وقرأ بعضهم برفع التاء من قوله : " علمت " وروي ذلك عن علي بن أبي طالب . ولكن قراءة الجمهور بفتح التاء على الخطاب{[17884]} لفرعون ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 13 ، 14 ] .

فهذا كله مما يدل على{[17885]} أن المراد بالتسع الآيات إنما هي ما تقدّم ذكره{[17886]} من العصا ، واليد ، والسنين ، ونقص من الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقُمَّل ، والضفادع ، والدم . التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه ، وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله . وليس المراد منها كما ورد في هذا الحديث ، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه ، وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون ؟ وما جاء هذا الوهم إلا من قبل " عبد الله بن سلمة{[17887]} فإن له بعض ما يُنْكر . والله أعلم . ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات ، فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات ، فحصل وَهْم في ذلك . والله أعلم .


[17881]:في ت: "يشتمل".
[17882]:البيت في تفسير الطبري (15/117).
[17883]:زيادة من ت.
[17884]:في ف: "على الخطاب فتح التاء".
[17885]:في أ: "عليه".
[17886]:في ت، ف: "ذكرها".
[17887]:في ف: "مسلم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالَ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰٓؤُلَآءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰفِرۡعَوۡنُ مَثۡبُورٗا} (102)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هََؤُلآءِ إِلاّ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنّي لأظُنّكَ يَفِرْعَونُ مَثْبُوراً } .

اختلفت القرّاء في قراءة قوله لَقَدْ عَلِمْتَ فقرأ عامة قرّاء الأمصار ذلك لَقَدْ عَلِمْتَ بفتح التاء ، على وجه الخطاب من موسى لفرعون . ورُوي عن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه في ذلك ، أنه قرأ : «لَقَدْ عَلِمْتُ » بضمّ التاء ، على وجه الخبر من موسى عن نفسه . ومن قرأ ذلك على هذه القراءة ، فإنه ينبغي أن يكون على مذهبه تأويل قوله إنّي لأَظُنّكَ يا مُوسَى مَسْحُورا إني لأظنك قد سُحِرت ، فترى أنك تتكلم بصواب وليس بصواب . وهذا وجه من التأويل . غير أن القراءة التي عليها قرّاء الأمصار خلافها ، وغير جائز عندنا خلاف الحجة فيما جاءت به من القراءة مجمعة عليه .

وبعد ، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر عن فرعون وقومه أنهم جحدوا ما جاءهم به موسى من الاَيات التسع ، مع علمهم بأنها من عند الله بقوله وأدُخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غيرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ، إنّهُمْ كانُوا قَوْما فاسِقِينَ فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ ظُلْما وَعُلُوّا فأخبر جلّ ثناؤه أنهم قالوا : هي سحر ، مع علمهم واستيقان أنفسهم بأنها من عند الله ، فكذلك قوله : لَقَدْ عَلِمْتَ إنما هو خبر من موسى لفرعون بأنه عالم بأنها آيات من عند الله . وقد ذُكر عن ابن عباس أنه احتجّ في ذلك بمثل الذي ذكرنا من الحجة . قال :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ : لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون بالنصب ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلاّ رَبّ السّمَواتِ والأرْضِ ، ثم تلا وَجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ ظُلْما وعُلُوّا . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : قال موسى لفرعون : لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الاَيات التسع البينات التي أريتكها حجة لي على حقيقة ما أدعوك إليه ، وشاهدة لي على صدق وصحة قولي ، إني لله رسول ، ما بعثني إليك إلا ربّ السموات والأرض ، لأن ذلك لا يقدر عليه ، ولا على أمثاله أحد سواه . بصائر يعني بالبصائر : الاَيات ، أنهنّ بصائر لمن استبصر بهنّ ، وهدى لمن اهتدى بهنّ ، يعرف بهنّ من رآهنْ أن من جاء بهنّ فمحقّ ، وأنهنّ من عند الله لا من عند غيره ، إذ كنّ معجزات لا يقدر عليهنّ ، ولا على شيء منهنّ سوى ربّ السموات والأرض وهو جمع بصيرة .

وقوله : وإنّي لأَظُنّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورا يقول : إني لأظنك يا فرعون ملعونا ممنوعا من الخير . والعرب تقول : ما ثبرك عن هذا الأمر : أي ما منعك منه ، وما صدّك عنه ؟ وثبره الله فهو يُثْبره ويُثَبَره لغتان ، ورجل مثبور : محبوس عن الخيرات هالك ومنه قول الشاعر :

إذْ أُجارِي الشّيْطانَ في سَننِ الغَيّ *** وَمنْ مالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُهُ

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عبد الله بن عبد الله الكلابي ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، قال : حدثنا عمر بن عبد الله ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : إنّي لأَظُنّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورا قال ملعونا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : أخبرنا عمر بن عبد الله الثقفي ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّي لأَظُنّكَ يا فِرْعَوْنَ مَثْبُورا يقول : ملعونا .

وقال آخرون : بل معناه : إني لأظنك يا فرعون مغلوبا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّي لأَظُنّكَ يا فِرْعَوْنَ مَثْبُورا يعني : مغلوبا .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله إنّي لأَظُنّكَ يا فِرْعَوْنَ مَثْبُورا يقول : مغلوبا .

وقال بعضهم : معنى ذلك : إنى لأظنك يا فرعون هالكا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مثبورا : أي هالكا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وإنّي لأَظُنّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُورا : أي هالكا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، بنحوه .

وقال آخرون : معناه : إني لأظنك مبدّلاً مغيرا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، عن عيسى بن موسى ، عن عطية إنّي لأَظُنّكَ يا فِرْعَوْنَ مَثْبُورا قال : مبدّلاً .

وقال آخرون : معناه : مخبولاً لا عقل له . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإنّي لأَظُنّكَ يا فِرْعَوْنَ مَثْبُورا قال : الإنسان إذا لم يكن له عقل فما ينفعه ؟ يعني : إذا لم يكن له عقل ينتفع به في دينه ومعاشه دعته العرب مثبورا . قال : أظنك ليس لك عقل يا فرعون ، قال : بينا هو يخافه ولا ينطق لساني أن أقول هذا لفرعون ، فلما شرح الله صدره ، اجترأ أن يقول له فوق ما أمره الله .

وقد بيّنا الذي هو أولى بالصواب في ذلك قبل .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰٓؤُلَآءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰفِرۡعَوۡنُ مَثۡبُورٗا} (102)

معنى { ولقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض } : أن فرعون لم يبق في نفسه شك في أن تلك الآيات لا تكون إلا بتسخير الله إذ لا يقدر عليها غيرُ الله ، وأنه إنما قال : { إني لأظنك يا موسى مسحوراً } عناداً ومكابرة وكبرياء .

وأكد كلام موسى بلام القسم وحرف التحقيق تحقيقاً لحصول علم فرعون بذلك . وإنما أيقن موسى بأن فرعون قد علم بذلك : إما بوحي من الله أعلمه به ، وإما برأي مُصيب ، لأن حصول العلم عند قيام البرهان الضروري حصول عقلي طبيعي لا يتخلف عن عقل سليم .

وقرأ الكسائي وحده { لقد علمتُ } بضم التاء ، أي أن تلك الآيات ليست بسحر كما زعمتَ كناية على أنه واثق من نفسه السلامة من السحر .

والإشارة ب { هؤلاء } إلى الآيات التسع جيء لها باسم إشارة العاقل ، وهو استعمال مشهور . ومنه قوله تعالى : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } [ الإسراء : 36 ] ، وقول جرير :

ذُم المنازل بعد منزلة اللوى *** والعيشَ بعد أولئِك الأيام

والأكثر أن يشار ب ( أولاء ) إلى العاقل .

والبصائر : الحجج المفيدة للبصيرة ، أي العلم ، فكأنها نفس البصيرة .

وقد تقدم عند قوله تعالى : { هذا بصائر من ربكم } في آخر سورة [ الأعراف : 203 ] .

وعبر عن الله بطريق إضافة وصف الرب للسماوات والأرض تذكيراً بأن الذي خلق السماوات والأرض هو القادر على أن يخلق مثل هذه الخوارق .

والمثبور : الذي أصابه الثُبور وهو الهلاك . وهذا نذارة وتهديد لفرعون بقرب هلاكه . وإنما جعله موسى ظناً تأدباً مع الله تعالى ، أو لأنه علم ذلك باستقراء تام أفاده هلاك المعاندين للرسل ، ولكنه لم يدر لعل فرعون يقلع عن ذلك وكان عنده احتمالاً ضعيفاً ، فلذلك جعل توقع هلاك فرعون ظناً . ويجوز أن يكون الظن هنا مستعملاً بمعنى اليقين كما تقدم آنفاً .

وفي ذكر هذا من قصة موسى إتمام لتمثيل حال معاندي الرسالة المحمدية بحال من عاند رسالة موسى عليه السلام .

وجاء في جواب موسى عليه السلام لفرعون بمثل ما شافهه فرعون به من قوله : { إني لأظنك يا موسى مسحوراً } مقارعة له وإظهاراً لكونه لا يخافه وأنه يعامله معاملة المثل قال تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] .