اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰٓؤُلَآءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰفِرۡعَوۡنُ مَثۡبُورٗا} (102)

قوله : { لَقَدْ عَلِمْتَ } : قرأ الكسائي{[20741]} بضمِّ التاء أسند الفعل لضمير موسى - عليه السلام - أي : إنِّي متحققٌ أن ما جئتُ به هو منزَّلٌ من عند الله تعالى ، والباقون بالفتح على إسناده لضمير فرعون ، أي : أنت متحقِّقٌ أنَّ ما جئت به هو منزَّل من عند الله ، وإنَّما كفرك عنادٌ ، وعن عليّ - رضي الله عنه - أنه أنكر الفتح ، وقال : " ما عَلِمَ عدُو الله قطُّ ، وإنَّما علمَ مُوسَى " ، [ ولَو عَلِمَ ، لآمنَ ؛ ]{[20742]} فبلغ ذلك ابن عباس ، فاحتجَّ بقوله تعالى :

{ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ } [ النمل : 14 ] على أنَّ فرعون وقومه علموا بصحَّة أمر موسى .

فصل في الخلاف في أجود القراءتين

قال الزجاج : الأجودُ في القراءة الفتحُ ؛ لأنَّ علم فرعون بأنَّها آياتٌ نازلةٌ من عند الله أوكد في الاحتجاج ، واحتجاج موسى على فرعون بعلم فرعون أوكد من الاحتجاج عليه بعلم نفسه .

وأجاب من نصر قراءة عليٍّ عن دليل ابن عباس ، فقال قوله : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ } يدلُّ على أنهم استيقنوا أشياء ، فأمَّا أنهم استيقنوا كون هذه الأشياء نازلة من عند الله ، فليس في الآية ما يدل عليه ؛ ويدلُّ بأنَّ فرعون قال : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] .

قال موسى : " لقَدْ عَلْمتَ " .

والمعنى : " اعلم أنِّي لستُ بمجنونٍ " ، ولم يثبت عن عليٍّ رفعُ التاء ؛ لأنه يروى عن رجلٍ من مرادٍ عن عليٍّ ، وذلك الرجل مجهول .

واعلم : أن هذه الآيات من عند الله ، ولا تشكَّ في ذلك بسبب سفاهتك والجملة المنفيَّة في محلِّ نصبٍ ؛ لأنها معلقة للعلم قبلها وتقدير الآية : ما أنزل هؤلاء " الآيات " ؛ ونظيره قوله : [ الكامل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . *** والعَيْشَ بَعْدَ أولئك الأيَّام{[20743]}

أي : للأمام . قوله : " بَصائِرَ " حالٌ ، وفي عاملها قولان :

أحدهما : أنه " أنْزلَ " هذا الملفوظ به ، وصاحبُ الحال " هؤلاءِ " وإليه ذهب الحوفي ، و ابن عطيَّة ، وأبو البقاء{[20744]} ، وهؤلاء يجيزون أن يعمل ما قبل " إلاَّ " فيما بعدها ، وإن لم يكن مستثنى ، ولا مستثنى منه ، ولا تابعاً له .

والثاني : - وهو مذهب الجمهور- : أنَّ ما بعد " إلاَّ " لا يكون معمولاً لما قبله ، فيقدر لها عامل ، تقديره : أنزلها بصائر ، وقد تقدَّم نظير هذه في " هود " عند قوله { إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي } [ هود : 27 ] .

ومعنى " بَصائِرَ " أي : حججاً بيِّنة ؛ كأنها بصائر العقول ، والمراد : الآيات التِّسع ، ثم قال موسى : { وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يا فرعون مَثْبُوراً } .

قوله : " مَثبُوراً " مفعول ثانٍ ، واعترض بين المفعولين بالنِّداء ، و المَثبُورُ : المهلك ؛ يقال : ثبرهُ الله ، أي : أهلكه ، قال ابن الزبعرى : [ الخفيف ]

إذْ أجَارِي الشَّيطَانَ في سَننِ الغَيْ *** يِ ومَنْ مَالَ مَيلهُ مَثْبُور{[20745]}

والثُّبورُ : الهلاكُ ؛ قال تعالى : { لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً } [ الفرقان : 14 ] .

وقال ابن عباس : مَثْبُوراً ، أي : ملعوناً ، وقال الفراء : مصروفاً ممنوعاً عن الخير ، والعرب تقول : ما ثبرك عن هذا ؟ أي : ما منعك عن هذا ، وما صرفك عنه ؟ .

قال أبو زيدٍ : يقال ثبرت فلاناً عن الشيء ، أثبرهُ ، أي رددتُّه عنه .

فصل في جواب موسى لفرعون بكونه مثبوراً

واعلم أنَّ فرعون لمَّا وصف موسى - عليه السلام - بكونه مسحوراً ، أجابه موسى بأنَّك مثبورٌ ، أي : أنَّ هذه الآيات ظاهراتٌ ، ومعجزاتٌ ظاهرةٌ ؛ لا يرتاب العاقل في أنَّها من عند الله ؛ وأنه أظهرها لأجل تصديقي ، وأنت تنكرها حسداً ، وعناداً ، ومن كان كذلك ، كان عاقبته الدَّمار والهلاك .


[20741]:ينظر: السبعة 385، والحجة 411، والتيسير 141، والنشر 2/309 والإتحاف 2/206، والحجة للقراء السبعة 5/122.
[20742]:زيادة من ب.
[20743]:ينظر: الرازي 21/55.
[20744]:ينظر: الإملاء 2/97.
[20745]:ينظر البيت في تفسير الطبري 15/117، البحر المحيط 6/67، الجمهرة 2/277، والدر المصون 4/425، مجاز القرآن 1/392.