تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا} (81)

وقوله : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } تهديد ووعيد لكفار قريش ؛ فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به ، وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع . وزَهَقَ باطلهم ، أي اضمحل وهلك ، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [ الأنبياء : 18 ] .

وقال البخاري : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن أبي{[17803]} مَعْمر ، عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نُصُبٍ ، فجعل يطعنها بعود في يده ، ويقول : { جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد " {[17804]} .

وكذا رواه البخاري أيضًا في غير هذا الموضع ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة به . {[17805]} [ وكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري عن ابن أبي نجيح ]{[17806]} .

وكذا رواه الحافظ أبو يعلى : حدثنا زهير ، حدثنا شَبَابة ، حدثنا المغيرة ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر رضي الله عنه ، قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا{[17807]} يعبدون من دون الله . فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها ، وقال : " جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقًا " {[17808]} .


[17803]:في ت: "ابن".
[17804]:صحيح البخاري برقم (4720).
[17805]:صحيح البخاري برقم (2478، 4287 )، وصحيح مسلم برقم (1781) وسنن الترمذي برقم (3138) وسنن النسائي الكبرى برقم (11297).
[17806]:زيادة من أ.
[17807]:في ت: "نصبا".
[17808]:ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (14/487): حدثنا شبابة بن سوار به.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا} (81)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلْ جَآءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً * وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظّالِمِينَ إَلاّ خَسَاراً } .

يقول تعالى ذكره : وقل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين كادوا أن يستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها : جاءَ الحَقّ وَزَهَقَ الباطِلُ .

واختلف أهل التأويل في معنى الحقّ الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلم المشركين أنه قد جاء ، والباطل الذي أمره أن يعلمهم أنه قد زَهَق ، فقال بعضهم : الحقّ : هو القرآن في هذا الموضع ، والباطل : هو الشيطان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَقُلْ جاءَ الحَقّ قال : الحقّ : القرآن وَزَهَقَ الباطِلُ إنّ الباطِلَ كانَ زَهُوقا .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَقُلْ جاءَ الحَقّ قال : القرآن : وَزَهَقَ الباطِلُ قال : هلك الباطل وهو الشيطان .

وقال آخرون : بل عُنِي بالحقّ جهاد المشركين وبالباطل الشرك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَقُلْ جاءَ الحَقّ قال : دنا القتال وَزَهَقَ الباطِلُ قال : الشرك وما هم فيه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول البيت ثلاثُ مئة وستون صنما ، فجعل يطعنها ويقول : جاءَ الحَقّ وَزَهَقَ الباطِلُ إنّ الباطِلَ كانَ زَهُوقا .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : أمر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يخبر المشركين أن الحقّ قد جاء ، وهو كلّ ما كان لله فيه رضا وطاعة ، وأن الباطل قد زهق : يقول : وذهب كلّ ما كان لا رضا لله فيه ولا طاعة مما هو له معصية وللشيطان طاعة ، وذلك أن الحقّ هو كلّ ما خالف طاعة إبليس ، وأن الباطل : هو كلّ ما وافق طاعته ، ولم يخصص الله عزّ ذكره بالخبر عن بعض طاعاته ، ولا ذهاب بعض معاصيه ، بل عمّ الخبر عن مجيء جميع الحقّ ، وذهاب جميع الباطل ، وبذلك جاء القرآن والتنزيل ، وعلى ذلك قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك بالله ، أعني على إقامة جميع الحقّ ، وإبطال جميع الباطل .

وأما قوله عزّ وجلّ : وَزَهَقَ الباطِلُ فإن معناه : ذهب الباطل ، من قولهم : زَهَقت نفسه : إذا خرجت وأزهقتها أنا ومن قولهم : أزهق السهم : إذا جاوز الغرض فاستمرّ على جهته ، يقال منه : زهق الباطل ، يزهَق زُهوقا ، وأزهقه الله : أي أذهبه . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس إنّ الباطِلَ كانَ زَهُوقا يقول : ذاهبا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا} (81)

أعقب تلقينه الدعاءَ بسداد أعماله وتأييده فيها بأن لقنه هذا الإعلان المنبىء بحصول إجابة الدعوة المُلْهَمَة بإبراز وعده بظهور أمره في صورة الخبر عن شيء مضى .

ولما كانت دعوة الرسول هي لإقامة الحق وإبطالِ الباطل كان الوعد بظهور الحق وعداً بظهور أمر الرسول وفوزه على أعدائه ، واستحفظه الله هذه الكلمة الجليلة إلى أن ألقاها يوم فتح مكة على مسامع من كانوا أعداءه فإنه لما دخل الكعبة ووجد فيها وحولها الأصنام جعل يشير إليها بقضيب ويقول : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } فتسقط تلك الأنصاب على وجوهها .

ومجيء الحق مستعمل مجازاً في إدراك الناس إياه وعملهم به وانتصار القائم به على معاضديه تشبيهاً للشيء الظاهر بالشيء الذي كان غايباً فورد جائياً .

و { زهَق } اضمحل بعد وجوده . ومصدره الزُهوق والزَهَق . وزهوق الباطل مجاز في تركه أصحابه فكأنه كان مقيماً بينهم ففارقهم . والمعنى : استقر وشاع الحق الذي يدعو إليه النبي وانقضى الباطل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه .

وجملة { إن الباطل كان زهوقاً } تذييل للجملة التي قبله لما فيه من عموم يشمل كل باطل في كل زمان . وإذا كان هذا شأن الباطل كان الثبات والانتصار شأن الحق لأنه ضد الباطل فإذا انتفى الباطل ثبت الحق .

وبهذا كانت الجملة تذييلاً لجميع ما تضمنته الجملة التي قبلها . والمعنى : ظهر الحق في هذه الأمة وانقضى الباطل فيها ، وذلك شأن الباطل فيما مضى من الشرائع أنه لا ثبات له .

ودل فعل { كان } على أن الزهوق شنشنة الباطل ، وشأنه في كل زمان أنه يظهر ثم يضمحل ، كما تقدم في قوله تعالى : { أكان للناس عجباً } في صدر سورة [ يونس : 2 ] .