وقوله : { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } : قال مالك عن زيد بن أسلم : أي ليس لها مثنوية أي : ما ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها أي : فقد اقتربت ودنت وأزفت وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله إسرافيل أن يطولها ، فلا يبقى أحد من أهل السماوات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله عز وجل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَنظُرُ هََؤُلاَءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً مّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } .
يقول تعالى ذكره : وَما يَنْظرُ هَؤُلاءِ المشركون بالله من قُريش إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً يعني بالصيحة الواحدة : النفخة الأولى في الصور ما لَهَا مِنْ فَوَاقِ يقول : ما لتلك الصيحة من فيقة ، يعني من فتور ولا انقطاع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وَما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ) يعني : أمة محمد ما لهَا مِنْ فَوَاقٍ .
حدثنا أبو كُرَيْب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع ، عن يزيد بن زياد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ لمّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السّمَوَاتِ والأرْضِ خَلَقَ الصّورَ ، فَأعْطاهُ إسْرَافِيلَ ، فَهُوَ وَاضِعُهُ على فِيهِ شاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتى يُؤْمَرُ » . قال أبو هريرة : يا رسول الله وما الصور ؟ قال : «قَرْنٌ » ، قال : كيف هو ؟ قال : «قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ : نَفْخَةُ الفَزَعِ الأُولى ، والثّانِيَةُ : نَفْخَةُ الصّعْقِ ، والثّالِثَةُ : نَفْخَةُ الْقِيامِ لِرَبّ العالَمِينَ ، يَأْمُرُ اللّهُ إسْرَافيلَ بالنّفْخَةِ الأُولى ، فَيَقُولُ : انْفُخُ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ، وَيَأْمُرُهُ اللّهُ فَيُدِيمُها وَيُطَوّلَها ، فَلا يَفْتَرُ وَهِيَ التي يَقُولُ اللّهُ وَما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ما لَها مِنْ فَوَاقٍ » .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) : فقال بعضهم : يعني بذلك : ما لتلك الصيحة من ارتداد ولا رجوع . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ( ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) يقول : من تَرداد .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) : يقول : ما لها من رجعة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) : قال : من رجوع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) : يعني الساعة ما لها من رجوع ولا ارتداد .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما لهؤلاء المشركين بعد ذلك إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ( ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) : يقول : ليس لهم بعدها إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا .
وقال آخرون : الصيحة في هذا الموضع : العذاب . ومعنى الكلام : ما ينتظر هؤلاء المشركون إلا عذابا يهلكهم ، لا إفاقة لهم منه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ) : قال : ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ، يا لها من صيحة لا يفيقون فيها كما يفيق الذي يغشى عليه وكما يفيق المريض تهلكهم ، ليس لهم فيها إفاقة .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة مِنْ فَوَاقٍ بفتح الفاء . وقرأته عامة أهل الكوفة : «مِنْ فُوَاقٍ » بضم الفاء .
واختلف أهل العربية في معناها إذا قُرئت بفتح الفاء وضمها ، فقال بعض البصريين منهم : معناها ، إذا فتحت الفاء : ما لها من راحة ، وإذا ضمت جعلها فُواق ناقة ما بين الحلبتين . وكان بعض الكوفيين منهم يقول : معنى الفتح والضمّ فيها واحد ، وإنما هما لغتان مثل السّوَاف والسّواف ، وجَمام المكوك وجُمامة ، وقَصاص الشعر وقُصاصة .
والصواب من القول في ذلك أنهما لغتان ، وذلك أنا لم نجد أحدا من المتقدمين على اختلافهم في قراءته يفرّقون بين معنى الضمّ فيه والفتح ، ولو كان مختلف المعنى باختلاف الفتح فيه والضم ، والضم ، لقد كانوا فرقوا بين ذلك في المعنى . فإذ كان ذلك كذلك ، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب وأصل ذلك من قولهم : أفاقت الناقة ، فهي تفيق إفاقة ، وذلك إذا رَدّت ما بين الرضعتين ولدها إلى الرضعة الأخرى ، وذلك أن ترضع البهيمة أمها ، ثم تتركها حتى ينزل شيء من اللبن ، فتلك الإفاقة يقال إذا اجتمع ذلك في الضرع فيقة ، كما قال الأعشى :
حتى إذَا فِيْقَةٌ فِي ضَرْعِها اجْتَمَعَتْ *** جاءَتْ لِتُرْضِعَ شِقّ النّفْسِ لوْ رَضِعا
لما أشعر قوله : { فحَقَّ عِقَابِ } [ ص : 14 ] بتهديد مشركي قريش بعذاب ينتظرهم جَرْياً على سنة الله في جزاء المكذبين رسلَه ، عطف على جملة الإِخبار عن حلول العذاب بالأحزاب السابقين جملةُ تَوعد بعذاب الذين ماثلوهم في التكذيب .
و { هؤلاء } إشارة إلى كفار قريش لأن تجدد دعوتهم ووعيدهم وتكذيبهم يوماً فيوماً جعلهم كالحاضرين فكانت الإِشارة مفهوماً منها أنها إليهم ، وقد تتبعتُ اصطلاح القرآن فوجدتُه إذا استعمل { هؤلاء } ولم يكن معه مشار إليه مذكور : أنه يريد به المشركين من أهل مكة كما نبهتُ عليه فيما مضى غير مرة .
و { يَنظُرُ } مشتق من النظر بمعنى الانتظار قال تعالى : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } [ الأنعام : 158 ] ، أي ما ينتظر المشركون إلا صيحة واحدة ، وهذا كقوله تعالى : { فهل ينتظرون إلاّ مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } [ يونس : 102 ] .
والمتبادر من الآية أنها تهديد لهم بصيحة صاعقة ونحوها كصيحة ثمود أو صيحة النفخ في الصور التي يقع عندها البعث للجزاء ، ولكن ما سبق ذكره آنفاً من أن قوله تعالى : { جُندٌ ما هُنالكَ مهزومٌ منَ الأحزابِ } [ ص : 11 ] إيماءٌ إلى بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن معانديه سيهزمون ويَعمل فيهم السيف يوم بدر ، يقتضي أن الصيحة صيحة القتال وهي أن يصيح النذير : يَا صباحاه كما صَاح الصارخ بمكة حين تعرَّض المسلمون لعير قريش ببدر . ووصفها ب { واحِدَةً } إشارة إلى أن الصاعقة عظيمة مهلكة ، أو أن النفخة واحدة وهي نفخة الصعق ، وفي خفيّ المعنى إيماء إلى أن القوم يبتدرون إلى السلاح ويخرجون مسرعين لإِنقاذ غيرهم فكانت الوقعة العظيمة وقعة يوم بدر أو صيحة المبارزين للقتال يومئذٍ .
وأسند الانتظار إليهم في حين أنهم غافلون عن ذلك ومكذبون بظاهره إسناد مجازي على طريقة المجاز العقلي فإنهم يَنتظر بهم ذلك المسلمون الموعودون بالنصر ، أو ينتظِر بهم الملائكة الموكّلون بحشرهم عند النفخة ، فلما كانوا متعلَّق الانتظار أسند فعل { يَنظُرُ } إليهم لملابسة المفعولية على نحو { في عيشةٍ راضية } [ الحاقة : 21 ] .
والفواق ، بفتح الفاء وضمها : اسم لما بين حلبتي حالب الناقة ورضعتي فَصيلها ، فإن الحالب يحلب الناقة ثم يتركها ساعة ليرضعها فصيلها ليَدر اللبن في الضرع ثم يعودون فيحلبونها ، فالمدة التي بين الحلبتين تسمى فَواقاً . وهي ساعة قليلة وهم قبل ابتداء الحلب يتركون الفصيل يرضعها لتدرّ باللبن . وجمهور أهل اللغة على أن الفتح والضم فيه سواء ، وذهب أبو عبيدة والفراء إلى أن بين المفتوح والمضموم فَرقاً فقالا : المفتوح بمعنى الراحة مثل الجَواب من الإِجابة ، والمضمومُ اسم للمدة . واللبن المجتمع في تلك الحصة يسمى : الفِيقَة بكسر الفاء ، وجمعُها أفاويق .
ومعنى { ما لَها من فَواقٍ } ليس بعدها إمهال بقدر الفواق ، وهذا كقوله تعالى : { ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصِّمون فلا يستطيعون توصية } [ يس : 49 - 50 ] .
وقرأ الجمهور { فَوَاقٍ } بفتح الفاء . وقرأه حمزة والكسائي بضم الفاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.