تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَمَا يَنظُرُ هَـٰٓؤُلَآءِ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ مَّا لَهَا مِن فَوَاقٖ} (15)

قوله تعالى : { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } يخبر عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ويؤيسه من إيمانهم ، أنهم لا يؤمنون إلا عند وقوع العذاب بهم حين لا ينفعهم الإيمان كقوله عز وجل { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون } { ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 96/97 ] .

ثم قوله عز وجل : { إلا صيحة واحدة } يحتمل أن يكون سمى نفس العذاب صيحة . وجائز أن يكون ذكر صيحة لما أن العذاب إذا نزل بهم ، ووقع عليهم يصيحون ، فسمى ذلك صيحة لصياحهم ، أو أن يكون ذلك إذا نزل بهم كان فيه صياح وصوت الشيء الهائل العظيم الشديد إذا هوى ، ووقع ، ومال إلى الأرض ، كان فيه صياح وصوت حتى يفزع الناس منه .

فعلى ذلك الصيحة التي ذكر يحتمل ما ذكرنا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ما لها من فواق } قال أبو عبيدة : من فتحها أراد مالها من راحة ولا إفاقة ؛ كأنه ذهب إلى إفاقة المريض من علته . ومن ضمها جعلها من فواق الناقة ، وهو بين الحلبتين ، ويريد : مالها من فواق . أي انتظار ومكث .

وقال أبو عوسجة والقتبي { مالها من فواق } إذ هي دائمة أبدا ، لا تنقطع . وقال الكسائي : الفواق بالنصب والرفع لغتان ، وهو من فواق الناقة بين الحلبتين والرضعتين .

وقال عامة أهل التأويل : { مالها من فواق } أي من مرد ومرجع وقرار . وقال بعضهم : هو مده البصر ، يقول : هي أقرب من ذلك كقوله عز وجل : { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب } [ النحل : 99 ] والله أعلم .

وأصل الفواق كأنه من العود والرجوع كعود اللبن إلى الضرع بعدما ما حلب مرة ، والله أعلم .

ذكر عن الحسن في قوله عز وجل : { ص والقرآن ذي الذكر } يقول : حادث القرآن بقلبك ، وهو من قول العرب : صاديت الدابة إذا كانت صعبة ، فلاطفتها حتى ذلت ، ولانت .

وقال أبو عوسجة : { ص } هو أشد كلام ، وهو شبه قسم . قال : والصادي في غير هذا الموضع العطشان ، وقوم صادون .

ثم اختلف في موضع جواب القسم : قال الكسائي : من جواب القسم في القرآن ما هو ظاهر ، لا يخفى ، ومنه غامض : فمن ظاهره قوله عز وجل : { فلا أقسم بالخنس } { الجوار الكنس } وجوابه قوله : { إنه لقول رسول كريم } [ التكوير : 15و16و19 ] . ومن غامضه : { ق والقرآن المجيد } قال بعض الناس : موضع جوابه قوله عز وجل : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] مع بعد ما بين هذا الكلام وبين القسم في أول السورة والله أعلم .

طال كلام العلماء في جواب هذا القسم حتى بلغ ما نصوا عليه خمسة نصوص ، كلها محتملة إلا هذا الخامس ولكن قسمه ، والله أعلم ، عندي : { ص والقرآن ذي الذكر } ثم اعترض { بل الذين كفروا في عزة وشقاق }وموضع جوابه { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } ، معناه : لكم أهلكنا ، إلا أنه لما اعترض بينه وبين القسم قوله : { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } حذف لام الجواب وصار قوله { كم أهلكنا } ردا عليه وجوابا له وهو غريب ظريف غامض .

وقوله عز وجل { ذي الذكر } قال بعضهم : ذي الشرف ، أي من أرومته شرف ، وقيل : ذي الشأن . وقيل : { ذي الذكر } فيه ذكر ما يؤتى وما يتقى وذكر من كان قبله من الأمم الخالية .

وقوله عز وجل { في عزة وشقاق } [ الآية : 2 ] قيل : في تكبر وتكذيب ، وقيل : في حمية وخلاف ، وقيل : في غفلة ونحوه . وقوله عز وجل : { فنادوا ولات حين مناص } [ الآية : 3 ] قال بعضهم : أي هربتم في غير وقت الهرب ، ومناص مهرب ، وناص ينوص نوصا ، وهو المنجى والغوث .

وقا القتبي : { ولات حين مناص } أي لات حين مهرب على ما قال أبو عوسجة . وقال : النوص التأخر في كلام العرب والمنوص المتقدم .

وأصله ما ذكرنا أن ذلك الوقت ليس هو وقت المهرب ولا وقت المنجى ولا وقت الغوث على ما تقدم غيره .