تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقٗا يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (78)

يخبر تعالى عن اليهود ، عَليهم لعائن الله ، أن منهم فريقا يُحَرِّفون الكلم عن مواضعه ويُبَدِّلون كلام الله ، ويزيلونه عن المراد به ، ليُوهِموا الجهلة

أنه في كتاب الله كذلك ، وينسبونه إلى الله ، وهو كذب على الله ، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ؛ ولهذا قال :

{ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .

وقال مجاهد ، والشعبي ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ } يحرفونه .

وهكذا روى{[5239]} البخاري عن ابن عباس : أنهم{[5240]} يحرفون ويزيدون{[5241]} وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله ، لكنهم يحرفونه : يتأولونه على غير تأويله .

وقال وهب بن مُنَبِّه : إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله لم يغير منهما حرف ، ولكنهم يُضِلّونَ بالتحريف والتأويل ، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فأما كتب الله فإنها محفوظة ولا تحول .

رواه ابن أبي حاتم ، فإن عَنَى وَهْب ما بأيديهم من ذلك ، فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص ، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير ، وزيادات كثيرة ونقصان ، ووَهْم فاحش . وهو من باب تفسير المعبر{[5242]} المعرب ، وفَهْم{[5243]} كثير منهم بل أكثرهم ، بل جميعهم فاسد . وأما إن عَنَى كتب الله التي هي كتبه من عنده ، فتلك كما قال محفوظة لم يدخلها شيء .


[5239]:في أ، و: "وحكى".
[5240]:في جـ، أ، و: "أنه قال".
[5241]:في جـ، ر، أ، و: "يزيلون".
[5242]:في أ، و: "المعنى".
[5243]:في أ: "وفهمه".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقٗا يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (78)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإنّ من أهل الكتاب ، وهم اليهود الذين كانوا حوالي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على عهده من بني إسرائيل . والهاء والميم في قوله : { مِنْهُمْ } عائدة على أهل الكتاب الذين ذكرهم في قوله : { وَمِنْ أهْلِ الكِتابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدّهِ إلَيْكَ } . وقوله : { لَفَرِيقا } يعني : جماعة { يَلْوُونَ } يعني : يحرّفون ، { ألْسِنَتَهُمْ بالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتابِ } يعني : لتظنوا أن الذي يحرّفونه بكلامهم من كتاب الله وتنزيله ، يقول الله عزّ وجلّ : { وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم ، فحرّفوه وأحدثوه من كتاب الله ، ويزعمون أن ما لووا به ألسنتهم من التحريف والكذب والباطل فألحقوه في كتاب الله من عند الله } ، يقول : { مما أنزله الله على أنبيائه ، وما هو من عند الله } ، يقول : { وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم ، فأحدثوه مما أنزله الله إلى أحد من أنبيائه ، ولكنه مما أحدثوه من قِبَل أنفسهم ، افتراء على الله } . يقول عزّ وجلّ : { وَيَقُولُونَ على الله الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يعني بذلك : أنهم يتعمدون قيل الكذب على الله ، والشهادة عليه بالباطل ، والإلحاق بكتاب الله ما ليس منه طلبا للرياسة والخسيس من حطام الدنيا .

وبنحو ما قلنا في معنى : { يَلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ } قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ } قال : يحرّفونه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ } حتى بلغ : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } هم أعداء الله اليهود حرّفوا كتاب الله وابتدعوا فيه ، وزعموا أنه من عند الله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ لَتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ } وهم اليهود كانوا يزيدون في كتاب الله ما لم ينزل الله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بالكِتَابِ } قال : فريق من أهل الكتاب يلوون ألسنتهم ، وذلك تحريفهم إياه عن موضعه .

وأصل الليّ : الفتل والقلب ، من قول القائل : لوى فلان يد فلان : إذا فتلها وقلبها ، ومنه قول الشاعر :

*** لَوَى يَدَهُ الله الذِي هُوَ غَالِبُهْ ***

يقال منه : لوى يده ولسانه يلوي ليا ، وما لوى ظهر فلان أحد : إذا لم يصرعه أحد ، ولم يفتل ظهره إنسان ، وإنه لألوى بعيد المستمر : إذا كان شديد الخصومة صابرا عليها لا يغلب فيها ، قال الشاعر :

فَلَوْ كَانَ فِي لَيلَى شَدا مِنْ خُصُومَةٍ *** لَلَوّيْتُ أعْنَاقَ الخُصُومِ المَلاوِيَا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقٗا يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (78)

الضمير في { منهم } ، عائد على أهل الكتاب ، و «الفريق » ، الجماعة من الناس هي مأخوذة من فرق ، إذا فصل وأبان شيئاً عن شيء ، و{ يلوون } معناه : يحرفون ويتحيلون بتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : { سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع }{[3269]} ونحو ذلك وليس التبديل المحض بليٍّ ، وحقيق الليّ في الثياب والحبال ونحوها ، فتلها وإراغتها{[3270]} ، ومنه ليّ العنق ثم استعمل ذلك في الحجج والخصومات والمجادلات تشبيهاً بتلك الإراغة التي في الأجرام فمنه قولهم ، خصم ألوى ومنه قول الشاعر :

[ الطويل ]

فَلَوْ كَانَ فِي لَيْلَى شَذًى مِنْ خُصُومَةٍ . . . لَلَوَّيْتُ أَعْنَاقَ الْخُصُومِ الملاويا{[3271]}

وقال الآخر : [ الرجز ]

ألْفَيْتَني ألوي بعيداً المستمر{[3272]}

وقرأ جمهور الناس ، «يلوون » ، مضارع لوى ، على وزن فعل بتخفيف العين وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، «يلَوّون » بتشديد الواو وفتح اللام ، من لوّى ، على وزن فعّل بتشديد العين ، وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ، وقرأ حميد «يلُوْن » بضم اللام وسكون الواو ، وهي في الأصل «يلون » مثل قراءة الجماعة ، فهمزت الواو المضمومة لأنها عرفها في بعض اللغات ، فجاء «يلؤون » فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام فجاء «يلُون » و{ الكتاب } في هذا الموضع التوراة ، وضمير الفاعل في قوله { لتحسبوه } هو للمسلمين قوله { وما هو من عند الله } نفي أن يكون منزلاً كما ادعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ومنهم بالتكسب ولم تعن الآية إلا لمعنى التنزيل فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله ، وما هو من عند الله ، وقد تقدم نظير قوله تعالى { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } .


[3269]:- من الآية (46) من سورة النساء.
[3270]:- الإراغة: المخادعة، وهي مصدر: أراغ.
[3271]:- البيت لمجنون ليلى (ديوانه: 313، واللسان: شذا، لوى) والشذا: الأذى والملاويا: الثنايا الملتوية.
[3272]:- في المثل: "لتجدن فلانا ألوى بعيد المستمر (فصل المقال: 131 والميداني 2/93)، وقيل: إن المثل للنعمان قاله في خالد بن معاوية السعدي، واستخدمه أرطأة بن سهية في رجز له: إذا تخازرت وما بي من خزر ثم كسرت العين من غير عور ألفيتني ألوى بعيد المستمر وروي في اللسان (خزر) لعمرو بن العاص؛ وانظر أيضا المعاني الكبير: 239؛ وهو مثل في شدة الخصومة واللجاجة.