يقول تعالى : إن الذين يعتاضون{[5205]} عما عهدهم{[5206]} الله عليه ، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وذكر{[5207]} صفته الناس وبيان أمره ، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة ، وهي عروض هذه{[5208]} الدنيا الفانية الزائلة " أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ " أي : لا نصيب لهم فيها ، ولا حظ لهم منها " وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " أي : برحمة{[5209]} منه لهم ، بمعنى : لا يكلمهم كلام لطف بهم ، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة " وَلا يُزَكِّيهِمْ " أي : من الذنوب والأدناس ، بل يأمر بهم إلى النار " وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة فلنذكر ما تيسر منها :
الحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا شعبة قال : علي بن مُدْرِك أخْبرَني قال : سمعت أبا زُرْعَة ، عن خَرَشة{[5210]} بن الحُر ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثَلاثَة لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " قلت : يا رسول الله ، من هم ؟ خابوا وخسروا . قال : وأعاده رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[5211]} ثلاث مرات قال : " المُسْبِل ، والمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكاذِبِ ، والمنانُ " . {[5212]} ورواه مسلم ، وأهل السنن ، من حديث شعبة ، به .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا إسماعيل ، عن الحُرَيري ، عن أبي العلاء بن الشِّخِّير ، عن أبي الأحْمَس{[5213]} قال : لقيتُ أبا ذر ، فقلتُ له : بلغني عنك أنك تُحدِّث حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : أما إنه لا تَخَالُني أكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما سمعته منه ، فما الذي بلغك عني ؟ قلتُ : بلغني أنك تقول : ثلاثة يحبهم الله ، وثلاثة يَشْنَؤهم الله عز وجل . قال : قلته وسمعته . قلت : فمن هؤلاء الذين يحبهم الله ؟ قال : الرجل يلقى العدوّ في فئة فينصب لهم نَحْرَه حتى يقتل أو يفتح لأصحابه . والقومُ يسافرون فيطول سراهم حتى يَحنُّوا أن يمسوا{[5214]} الأرض فينزلون ، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم . والرجلُ يكون له الجار يؤذيه{[5215]} فيصبر على أذاهُ حتى يفرق بينهما موت{[5216]} أو ظَعْن . قلت : ومن هؤلاء الذين يشنأ{[5217]} الله ؟ قال : التاجر الحلاف - أو{[5218]} البائع الحلاف - والفقير المختال ، والبخيل المنان{[5219]} غريب من هذا الوجه{[5220]} .
الحديث الثاني : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن جرير بن حازم قال : حدثنا عَدِيّ بن عدي ، أخبرني رجاء بن حَيْوة والعُرْس بن عَمِيرة{[5221]} عن أبيه عَدِي - هَو ابن عميرة الكندي - قال : خاصم رجل من كِنْدةَ يقال له : امرؤ القيس بن عابس{[5222]} رَجلا من حَضْرمَوْت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض ، فقضى على الحضرمي بالبينة ، فلم يكن{[5223]} له بينة ، فقضى على امرئ القيس باليمين . فقال الحضرمي : إن أمكنته من اليمين يا رسول الله ذهبتْ ورب{[5224]} الكعبة أرضي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيقتطِعَ بِهَا مَال أحَد لَقِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ " قال رجاء : وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا } فقال امرؤ القيس : ماذا لمن تركها يا رسول الله ؟ فقال{[5225]} الجنة " قال : فاشهَدْ أني قد تركتها له كلها . ورواه النسائي من حديث عدي بن عدي ، به{[5226]} .
الحديث الثالث : قال أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شَقيق ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ حَلَفَ عَلَى يمين هو فيها فَاجِر ، لِيقْتَطِعَ بِهَا مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، لَقِيَ الله عَزَّ وجَلَّ وَهُوَ عَليْهِ غَضْبَانُ "
فقال{[5227]} الأشعث : فيّ والله كان ذلك ، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجَحَدني ، فقدَّمته إلى رسول{[5228]} الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَلَكَ بَيَّنة ؟ " قلتُ : لا ، فقال لليهودي : " احْلِفْ " فقلتُ : يا رسول الله ، إذا يحلف فيذهب مالي . فأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا } [ إلى آخر ]{[5229]} الآية : أخرجاه من حديث الأعمش{[5230]} .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر بن عَيَّاش ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن شَقِيق بن سلمة ، حدثنا عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امرئ مسلمٍ بغير حَقٍّ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان " قال : فجاء الأشْعث بن قَيْس فقال : ما يُحدِّثكم أبو عبد الرحمن ؟ فحدثناه ، فقال : فيّ كان{[5231]} هذا الحديث ، خاصمتُ ابن عمٍّ لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر لي كانت في يده ، فجَحَدني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بَيِّنَتُكَ أنَّها بِئْرُكَ وَإلا فَيَمِينُهُ " قال : قلتُ : يا رسول الله ، ما لي بينة ، وإن تجعلها بيمينه{[5232]} تذهب بئري{[5233]} ؛ إنَّ خَصْمي امرؤ فاجر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امرئ مسلمٍ بغير حَقٍّ لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان " قال : وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا [ أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ]{[5234]} {[5235]} } .
الحديث الرابع : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رشْدين عن زَبّان ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ لله تَعَالى عِبَادًا لا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلا يَنْظُرُ إلَيهِمْ " قيل : ومن أولئك يا رسول الله ؟ قال : " مُتَبَرِّئٌ مَنْ وَالِدَيهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا ، ومُتَبَرِّئٌ مِنْ وَلَدِهِ ، وَرَجُلٌ أنْعَمَ عَلِيْهِ قَوْمٌ فكَفَر نعْمَتَهُمْ وتَبَرَّأ مِنْهُمْ " {[5236]} .
الحديث الخامس : قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا هُشَيْم ، أنبأنا العوّام - يَعني ابن حَوْشَبَ - عن إبراهيم بن عبد الرحمن - يعني السَّكْسَكي - عن عبد الله بن أبي أوْفَى : أن رجلا أقام سلعة له في السوق ، فحلف بالله لقد أعْطَى بها ما لم يُعْطه ، ليُوقع فيها رجلا من المسلمين ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا } ورواه البخاري ، من غير وجه ، عن العوام{[5237]} .
الحديث السادس : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَة وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ ، وَلا يُزَكِّيهِمْ ولَهم عذابٌ أليم : رَجُلٌ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ فَضْلَ مَاءٍ عِنْدَهُ ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ - يَعْنِي كَاذِبًا - وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا ، فَإِنْ أَعْطَاهُ وَفَى لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ " . ورواه أبو داود ، والترمذي ، من حديث وكيع ، وقال الترمذي : حسن صحيح{[5238]} .
{ إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلََئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الذين يستبدلون بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم ، ووصيته التي أوصاهم بها في الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه باتباع محمد وتصديقه ، والإقرار به ، وما جاء به من عند الله وبأيمانهم الكاذبة التي يستحلون بها ما حرّم الله عليهم من أموال الناس التي اؤتمنوا عليها ثمنا ، يعني عوضا وبدلاً خسيسا من عرض الدنيا وحطامها . { أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ } يقول : فإن الذين يفعلون ذلك لا حظّ لهم في خيرات الآخرة ، ولا نصيب لهم من نعيم الجنة ، وما أعدّ الله لأهلها فيها . دون غيرهم .
وقد بينا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في معنى الخلاق ، ودللنا على أولى أقوالهم في ذلك بالصواب بما فيه الكفاية .
وأما قوله : { وَلا يُكَلّمُهُمُ اللّهُ } فإنه يعني : ولا يكلمهم الله بما يسرّهم ولا ينظر إليهم ، يقول : ولا يعطف عليهم بخير مقتا من الله لهم كقول القائل لآخر : انظر إليّ نظر الله إليك ، بمعنى : تعطف عليّ تعطف الله عليك بخير ورحمة ، وكما يقال للرجل : لا سمع الله لك دعاءك ، يراد : لا استجاب الله لك ، والله لا يخفى عليه خافية ، وكما قال الشاعر :
دَعَوْتُ اللّهَ حتى خِفْتُ أنْ لا *** يَكُونَ اللّهُ يَسْمَعُ ما أقُولُ
وقوله { وَلا يُزَكّيهِمْ } يعني : ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ } يعني : ولهم عذاب موجع .
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية ، ومن عني بها ؟ فقال بعضهم : نزلت في أحبار من أحبار اليهود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : نزلت هذه الاَية : { إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأيْمَانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً } في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب .
وقال آخرون : بل نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب سلم بن جنادة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ هُوَ فِيها فاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِها مالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ ، لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبانُ » فقال الأشعث بن قيس : فيّ والله كان ذلك ، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض ، فجحدني ، فقدمته إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألَكَ بَيّنَةً » ؟ قلت : لا ، فقال لليهوديّ : «احْلِفْ » ! قلت : يا رسول الله إذَنْ يحلف فيذهب مالي ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأيْمَانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً } الآية .
حدثنا مجاهد بن موسى قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا جرير بن حازم عن عديّ بن عديّ ، عن رجاء بن حيوة والعُرْس ، أنهما حدثاه ، عن أبيه عديّ بن عميرة ، قال : كان بين امرىء القيس ورجل من حضرموت خصومة ، فارتفعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال للحضرمي : «بَيّنَتَكَ وَإلاّ فَيَمِينُهُ ! » قال : يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَلَفَ عَلى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ ليَقْتَطِعَ بِها حَقّ أخِيهِ لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبانُ » . فقال امرؤ القيس : يا رسول الله ، فما لمن تركها وهو يعلم أنها حقّ ؟ قال : «الجنّة » ، قال : فإني أشهدك أني قد تركتها . قال جرير : فكنت مع أيوب السختياني حين سمعنا هذا الحديث من عديّ ، فقال أيوب : إنّ عديا قال في حديث العرس بن عميرة : فنزلت هذه الآية : { إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وأيْمانَهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً } . . . إلى آخر الآية ، قال جرير : ولم أحفظ يومئذ من عديّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال آخرون : إن الأشعث بن قيس اختصم هو ورجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض كانت في يده لذلك الرجل أخذها لتعزّزه في الجاهلية ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أقِمْ بَيّنَتَكَ ! » قال الرجل : ليس يشهد لي أحد على الأشعث . قال : «فَلَكَ يَمِينُهُ » . فقام الأشعث ليحلف ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية ، فنكل الأشعث وقال : إني أشهد الله وأشهدكم أن خصمي صادق . فردّ إليه أرضه ، وزاده من أرض نفسه زيادة كثيرة ، مخافة أن يبقى في يده شيء من حقه ، فهي لعقب ذلك الرجل بعده .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن شقيق ، عن عبد الله ، قال : من حلف على يمين يستحقّ بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ، ثم أنزل الله تصديق ذلك : { إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وأَيْمانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً } الاَية . . . ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا ، فقال : ما حدثكم أبو عبد الرحمن ؟ فحدثناه بما قال ، فقال : صدق لفيّ أنزلت ، كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «شاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ ! » فقلت : إذا يحلف ولا يبالي . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقّ بِها مالاً هُوَ فِيها فاجِرٌ لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبانُ » ، ثم أنزل الله عزّ وجلّ تصديق ذلك : «إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وأيْمانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً } . . . الاَية .
حدثنا به محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : أخبرني داود بن أبي هند ، عن عامر : أن رجلاً أقام سلعته أوّل النهار ، فلما كان آخره جاء رجل يساومه ، فحلف لقد منعها أوّل النهار من كذا وكذا ، ولولا المساء ما باعها به ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { إنّ الّذِي يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأيْمانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً } .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن رجل ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وأيْمانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً } . . . الآية ، إلى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ } أنزلهم الله بمنزلة السحرة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أن عمران بن حصين كان يقول : من حلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال أخيه فليتبوأ مقعده من النار ، فقال له قائل : شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال لهم : إنكم لتجدون ذلك ، ثم قرأ هذه الاَية : { إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وأيْمانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً } . . . الآية .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا حسين بن عليّ ، عن زائدة ، عن هشام ، قال : قال محمد عن عمران بن حصين : من حلف على يمين مصبورة فليتبوأ بوجهه مقعده من النار ، ثم قرأ هذه الاَية كلها : { إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وأيْمانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال : إن اليمين الفاجرة من الكبائر ، ثم تلا : { إنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وأيْمانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أن عبد الله بن مسعود ، كان يقول : كنا نرى ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من الذنب الذي لا يغفر يمين الصبر إذا فجر فيها صاحبها .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِى الأَخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقوله تعالى : { الذين يشترون بعهد الله } الآية آية وعيد لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة وهي آية يدخل فيها الكفر فيما دونه من جحد الحقوق وختر المواثيق ، وكل أحد يأخذ من وعيد الآية على قدر جريمته ، واختلف المفسرون في سبب نزولها ، فقال عكرمة : نزلت في أحبار اليهود ، أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ، تركوا عهد الله في التوراة للمكاسب والرياسة التي كانوا بسبيلها ، وروي أنها نزلت بسبب خصومة الأشعث بن قيس{[3265]} مع رجل من اليهود في أرض فوجبت اليمين على اليهودي فقال الأشعث : إذن يحلف يا رسول الله ويذهب بمالي ، فنزلت الآية{[3266]} ، وروي أن الأشعث بن قيس اختصم في أرض مع رجل من قرابته فوجبت اليمين على الأشعث وكان في الحقيقة مبطلاً قد غصب تلك الأرض في جاهليته فنزلت الآية ، فنكل الأشعث عن اليمين ، وتحرج وأعطى الأرض وزاد من عنده أرضاً أخرى{[3267]} ، وروي أن الآية نزلت بسبب خصومة لغير الأشعث بن قيس ، وقال الشعبي : نزلت الآية في رجل أقام سلعة في السوق من أول النهار ، فلما كان في آخره جاءه رجل فساومه فحلف حانثاً لقد منعها في أول النهار من كذا وكذا ولولا المساء ما باعها ، فنزلت الآية بسببه{[3268]} ، وقال سعيد بن المسيب ، اليمين الفاجرة من الكبائر ، ثم تلا هذه الآية وقال ابن مسعود : كنا نرى ونحن مع نبينا أن من الذنب الذي لا يغفر يمين الصبر ، إذا فجر فيها صاحبها ، وقد جعل الله «الأيمان » في هذه الألفاظ مشتراة فهي مثمونة أيضاً ، والخلاق : الحظ والنصيب والقدر ، وهو مستعمل في المستحبات ، وقال الطبري : { ولا يكلمهم الله } معناه بما يسرهم وقال غيره : نفى تعالى أن يكلمهم جملة لأنه يكلم عباده المؤمنين المتقين ، وقال قوم من العلماء : وهي عبارة عن الغضب ، المعنى لا يحفل بهم ولا يرضى عنهم { ولا يزكيهم } يحتمل معنيين ، أحدهما يطهرهم من الذنوب وأدرانها ، والآخر ينمي أعمالهم ، فهي تنمية لهم ، والوجهان منفيان عنهم في الآخرة و { أليم } فعيل بمعنى ، مفعل ، فالمعنى ، مؤلم .