تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا} (9)

وقوله : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ [ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ]{[6663]} } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هذا في الرجل يَحْضُره الموت ، فيسمعه الرجل يوصي بوصية تَضر بورثته ، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ، ويوفقه ويسدده للصواب ، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضَّيْعَةَ .

وهكذا قال مجاهد وغير واحد ، وثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سَعْد بن أبي وقاص يعوده قال : يا رسول الله ، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : " لا " . قال : فالشَّطْر ؟ قال : " لا " . قال : فالثلث ؟ قال : " الثلث ، والثلث كثير " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك إن تَذر وَرَثَتَك أغنياء خَيْر من أن تَذَرَهم عَالةً يتكَفَّفُون الناس " {[6664]} .

وفي الصحيح أن ابن عباس قال : لو أن الناس غَضّوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الثلث ، والثلث كثير " {[6665]} .

قال الفقهاء : إن كان ورثة الميت أغنياء استُحب للميت أن يَسْتَوفي الثلث في وصيته{[6666]} وإن كانوا فقراء استُحب أن يَنْقُص الثلث .

وقيل : المراد بقوله : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ } [ أي ]{[6667]} في مباشرة أموال اليتامى { وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا }

حكاه ابن جرير من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس : وهو قول حسن ، يتأيد بما بعده من التهديد في أكل مال اليتامى ظلما ، أي : كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك ، فعامل الناس في ذرياتهم{[6668]} إذا وليتهم .


[6663]:زيادة من جـ، ر، أ، وفي هـ: "الآية".
[6664]:صحيح البخاري برقم (2742) وصحيح مسلم برقم (1628).
[6665]:صحيح البخاري برقم (2743) وصحيح مسلم برقم (1629).
[6666]:في أ: "أن يستوفى في وصيته ثلث ماله".
[6667]:زيادة من جـ، ر.
[6668]:في أ: "ذراريهم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا} (9)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُواّ اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : { ولْيَخْشَ } : ليخف الذين يحضرون موصيا يوصي في ماله أن يأمره بتفريق ماله وصية به فيمن لا يرثه ، ولكن ليأمره أن يبقي ماله لولده ، كما لو كان هو الموصي ، يسرّه أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ، وأن لا يدعهم عالة مع ضعفهم وعجزهم عن التصرف والاحتيال . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ } . . . إلى آخر الاَية . فهذا في الرجل يحضره الموت فيسمعه يوصي بوصية تضرّ بورثته ، فأمر الله سبحانه الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدّده للصواب ، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيعة .

حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ } يعني : الذي يحضره الموت ، فيقال له : تصدّق من مالك ، وأعتق ، وأعط منه في سبيل الله ، فنهوا أن يأمروه بذلك . يعني : أن من حضر منكم مريضا عند الموت ، فلا يأمره أن ينفق ماله في العتق أو الصدقة أو في سبيل الله ، ولكن يأمره أن يبين ماله ، وما عليه من دين ، ويوصي في ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون ، ويوصي لهم بالخمس أو الربع . يقول : أليس يكره أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف يعني صغار أن يتركهم بغير مال ، فيكونوا عيالاً على الناس ؟ فلا ينبغي أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولا أولادكم ولكن قولوا الحقّ من ذلك .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } قال : يقول : من حضر ميتا فليأمره بالعدل والإحسان ، ولينهه عن الحيف والجور في وصيته ، وليخش على عياله ما كان خائفا على عياله لو نزل به الموت .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { ولِيخْشَى الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } قال : إذا حضر ت وصية ميت ، فمره بما كنت آمرا نفسك بما تتقرّب به إلى الله ، وخف في ذلك ما كنت خائفا على ضعفتك لو تركتهم بعدك . يقول : فاتق الله وقل قولاً سديدا ، إنْ هو زاغ .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ولْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ وليْقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا } الرجل يحضره الموت ، فيحضره القوم عند الوصية ، فلا ينبغي لهم أن يقولوا له : أوص بمالك كله وقدم لنفسك ، فإن الله سيرزق عيالك ، ولا يتركوه يوصي بماله كله ، يقول للذين حضروا : { ولْيَخْش الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ } فيقول كما يخاف أحدكم على عياله لو مات إذ يتركهم صغارا ضعافا لا شيء لهم الضيعة بعده ، فليخف ذلك على عيال أخيه المسلم ، فيقول له القول السديد .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، قال : ذهبت أنا والحكم بن عيينة إلى سعيد بن جبير ، فسألناه عن قوله : { ولْيَخْش الّذِين لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } . . . الاَية ، قال : قال الرجل يحضره الموت ، فيقول له من يحضره : اتق الله ، صلهم ، أعطهم ، برّهم ، ولو كانوا هم الذين يأمرهم بالوصية لأحبوا أن يبقوا لأولاهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير في قوله : { ولْيَخْش الّذِين لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهمْ ذُرّيّةً ضِعافا } قال : يحرضهم اليتامى فيقولون : اتق الله وصلهم وأعطهم ، فلو كانوا هم لأحبوا أن يبقوا لأولادهم .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوَ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } . . . الاَية ، يقول : إذا حضر أحدكم من حضره الموت عند وصيته ، فلا يقل : أعتق من مالك وتصدّق ، فيفرّق ماله ويدع أهله عُيّلاً ، ولكن مروه فليكتب ماله من دين وما عليه ، ويجعل من ماله لذوي قرابته خمس ماله ، ويدع سائره لورثته .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ } . . . الاَية . قال : هذا يفرق المال حين يقسم ، فيقول الذين يحضرون : أقللت زد فلانا ! فيقول الله تعالى : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ } فليخش أولئك وليقولوا فيهم مثل ما يحبّ أحدهم أن يقال في ولده بالعدل إذا أكثر : أبق على ولدك .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وليخش الذين يحضرون الموصي وهو يوصي ، الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا فخافوا عليهم الضيعة من ضعفهم وطفولتهم ، أن ينهوه عن الوصية لأقربائه ، وأن يأمره بإمساك ماله والتحفظ به لولده ، وهم لو كانوا من أقرباء الموصي لسرّهم أن يوصي لهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، قال : ذهبت أنا والحكم بن عيينة ، فأتينا مقسما ، فسألناه ، يعني عن قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } . . . الاَية ، فقال : ما قال سعيد بن جبير ؟ فقلنا : كذا وكذا . فقال : ولكنه الرجل يحضره الموت ، فيقول له من يحضره : اتق الله وأمسك عليك مالك ، فليس أحد أحقّ بمالك من ولدك ! ولو كان الذي يوصي ذا قرابة لهم ، لأحبوا أن يوصي لهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : قال مقسم : هم الذين يقولون : اتق الله وأمسك عليك مالك ، فلو كان ذا قرابة لهم لأحبوا أن يوصي لهم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ ، وقرأ : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } قال : قالوا حقيق أن يأمر صاحب الوصية بالوصية لأهلها ، كما أن لو كانت ذرّية نفسه بتلك المنزلة لأحبّ أن يوصي لهم ، وإن كان هو الوارث فلا يمنعه ذلك أن يأمره بالذي يحقّ عليه ، فإن ولده لو كانوا بتلك المنزلة أحبّ أن يحثّ عليه ، فليتق الله هو ، فليأمره بالوصية وإن كان هو الوارث ، أو نحوا من ذلك .

وقال آخرون : بل معنى ذلك أمر من الله ولاة اليتامى أن يلوهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم ، ولا يأكلوا أموالهم إسرافا وبدارا أن يكبروا ، وأن يكونوا لهم كما يحبون أن يكون ولاة ولده الصغار بعدهم لهم بالإحسان إليهم لو كانوا هم الذين ماتوا وتركوا أولادهم يتامى صغارا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ } يعني بذلك : الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة ، ويخاف بعده أن لا يحسن إليه من يليهم ، يقول : فإن ولي مثل ذريته ضعافا يتامى ، فليحسن إليهم ، ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا خشية أن يكبروا ، فليتقوا الله ، وليقولوا قولاً سديدا .

وقال آخرون : معنى ذلك : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ، فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدا ، يكفيهم الله أمر ذرّيتهم بعدهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا إبراهيم بن عطية بن دريج بن عطية ، قال : ثني عمي محمد بن دريج ، عن أبيه ، عن الشيباني ، قال : كنا بالقسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك ، وفينا ابن محيريز وابن الديلمي وهانىء بن كلثوم ، قال : فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان ، قال : فضقت ذرعا بما سمعت ، قال : فقلت لابن الديلمي : يا أبا بشر بودّي أنه لا يولد لي ولد أبدا ! قال : فضرب بيده على منكبي وقال : يا ابن أخي لا تفعل ، فإنه ليست من نسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل ، إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى . قال : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه ، وإن تركت ولدك من بعدك حفظهم الله فيك ؟ قال : قلت بلى ، قال : فتلا عند ذلك هذه الاَية : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرْيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا } .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بالاَية قول من قال : تأويل ذلك : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم العيلة لو كانوا فرّقوا أمولهم في حياتهم ، أو قسموها وصية منهم بها لأولي قرابتهم وأهل اليتم والمسكنة ، فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العيلة عليهم بعدهم مع ضعفهم وعجزهم عن المطالب ، فليأمروا من حضروه ، وهو يوصي لذوي قرابته وفي اليتامى والمساكين وفي غير ذلك بماله بالعدل ، وليتقوا الله ، وليقولوا قولاً سديدا ، وهو أن يعرّفوه ما أباح الله له من الوصية وما اختاره المؤمنون من أهل الإيمان بالله وبكتابه وسنته .

وإنما قلنا ذلك بتأويل الاَية أولى من غيره من التأويلات لما قد ذكرنا فيما مضى قبل ، من أن معنى قوله : { وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَاليَتامَى وَالمَساكِينْ فارْزُقوهُمْ منه وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفا } وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فأوصوا لهم ، بما قد دللنا عليه من الأدلة . فإذا كان ذلك تأويل قوله : { وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَاليَتَامى وَالمَساكِينُ } . . . الاَية ، فالواجب أن يكون قوله تعالى ذكره : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ } تأديبا منه عباده في أمر الوصية بما أذنهم فيه ، إذ كان ذلك عقيب الاَية التي قبلها في حكم الوصية ، وكان أظهر معانيه ما قلنا ، فإلحاق حكمه بحكم ما قبله أولى مع اشتباه معانيهما من صرف حكمه إلى غيره بما هو له غير مشبه .

وبمعنى ما قلنا في تأويل قوله : { ولْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا } قال من ذكرنا قوله في مبتدأ تأويل هذه الاَية ، وبه كان ابن زيد يقول .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ولْيَخْش الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرْيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ ولْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا } قال : يقول قولاً سديدا ، يذكر هذا المسكين وينفعه ، ولا يجحف بهذا اليتيم وارث المؤدّي ولا يضرّ به ، لأنه صغير لا يدفع عن نفسه ، فانظر له كما تنظر إلى ولدك لو كانوا صغارا .

والسديد من الكلام : هو العدل والصواب .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا} (9)

وقوله { وليخش } جزم بلام الأمر ، ولا يجوز إضمار هذه اللام عند سيبويه ، قياساً على حروف الجر ، إلا في ضرورة شعر ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]

مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ . . . إذا مَا خِفْتَ مِنْ أمْرٍ تَبَالاً{[3861]}

وقرأ أبو حيوة وعيسى بن عمر والحسن والزهري : بكسر لامات الأمر في هذه الآية ، وقد تقدم الكلام على لفظ { ذرية } في سورة آل عمران ، ومفعول يخشى محذوف لدلالة الكلام عليه ، وحسن حذفه من حيث يتقدر فيه التخويف بالله تعالى . والتخويف بالعاقبة في الدنيا ، فينظر كل متأول بحسب الأهم في نفسه ، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وعائشة : «ضُعفاء » بالمد وضم الضاد ، وروي عن ابن محيصن «ضُعُفاُ » بضم الضاد والعين وتنوين الفاء ، وأمال حمزة { ضعافاً } وأمال - { خافوا } ، والداعي إلى إمالة { خافوا } الكسرة التي في الماضي في قولك : خفت ليدل عليها و { خافوا } جواب { لو } تقديره : لو تركوا لخافوا ويجوز حذف اللام في جواب - لو - تقول - لو قام زيد لقام عمرو ، ولو قام زيد قام عمرو ، واختلف مَن المراد بهذه الآية ؟ فقال ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد : المراد من حضر ميتاً حين يوصي فيقول له : قدم لنفسك وأعط فلان وفلانة ويؤذي الورثة بذلك ، فكأن الآية تقول لهم : كما كنتم تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم ، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم وذريته ، ولا تحملوه على تبذير ماله وتركهم عالة . وقال مقسم وحضرمي : نزلت في عكس ذلك ، وهو أن يقول للمحتضر : أمسك على ورثتك وأبق لولدك ، وينهاه عن الوصية فيضر بذلك ذوي القربى ، وكل من يستحق أن يوصي له ، فقيل لهم : كما كنتم تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم ، فكذلك فسددوا القول في جهة المساكين واليتامى ، واتقوا الله في ضرهم .

قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس ، بل الناس صنفان يصلح لأحدهما القول الواحد ، وللآخر القول الثاني ، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثة مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ، ويحمل على أن يقدم لنفسه ، وإذا ترك ورثة ضعفاء مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين ، فالمراعى إنما هو الضعف ، فيجب أن يمال معه ، وقال ابن عباس أيضاً : المراد بالآية ولاة الأيتام ، فالمعنى : أحسنوا إليهم وسددوا القول لهم ، واتقوا الله في أكل أموالهم كما تخافون على ذريتكم أن يفعل بهم خلاف ذلك ، وقالت فرقة : بل المراد جميع الناس ، فالمعنى : أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم ، وأن يسددوا لهم القول كما يريد كل أحد أن يفعل بولده بعده ، ومن هذا ما حكاه الشيباني قال{[3862]} : كنا على قسطنطينة في عسكر مسلمة بن عبد الملك ، فجلسنا يوماً في جماعة من أهل العلم فيهم الديلمي فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان ، فقلت له : يا أبا بسر{[3863]} ، ودي أن لا يكون لي ولد ، فقال لي : ما عليك ، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت أحب أم كره ، ولكن إن أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم ، ثم تلا هذه الآية ، «والسديد » معناه : المصيب للحق ، ومنه قول الشاعر :

أعلمه الرماية كل يوم . . . فلما اشتد ساعده رماني{[3864]}

معناه لما وافق الأغراض التي يرمي إليها .


[3861]:- البيت من شواهد سيبويه (1/408)، وانظر الخزانة 3/629، 666، والعيني 4/418، 28، 85، وشرح شواهد المغني: 207، وينسب لحسان أو لأبي طالب. والتبال: سوء العاقبة، أصله وبال أبدلت الواو تاء- والشاهد حذف اللام من (تفد)
[3862]:- القصة مفصلة في تفسير الطبري، وانظر القرطبي أيضا 5/51.
[3863]:- في بعض الروايات: (بشر) بالشين المعجمة.
[3864]:- ورد البيت في الأغاني 5/ 159، 6/ 281 (ط. دار الثقافة) على جهة التمثل به؛ وورد في اللسان (سدد) دون نسبة، ونقل الأصمعي: اشتد بالشين المعجمة ليس بشيء.