{ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ } ، أي : يفرغ وينقضي ، فإنه إلى أجل معدود محصور مقدَّر مُتَناه ، { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } ، أي : وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاد له ، فإنه دائم لا يحول ولا يزول ، { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، قسم من الرب عز وجل{[16681]} مُتَلقى باللام ، أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم ، أي : ويتجاوز عن سيئها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنّمَا عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولا تنقضوا عهودكم أيها الناس وعقودكم التي عاقدتموها من عاقدتم مؤكّديها بأيمانكم ، تطلبون بنقضكم ذلك عرضا من الدنيا قليلاً ، ولكن أوفوا بعهد الله الذي أمركم بالوفاء به يثبكم الله على الوفاء به ، فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك هو خير لكم إن كنتم تعلمون فضل ما بين العِوَضين اللذين أحدهما : الثمن القليل الذي تشترون بنقض عهد الله في الدنيا ، والآخر : الثواب الجزيل في الآخرة على الوفاء به . ثم بين تعالى ذكره فَرْق ما بين العِوَضين وفضل ما بين الثوابين ، فقال : ما عندكم أيها الناس مما تتملكونه في الدنيا وإن كَثُر فنافدٌ فانٍ ، وما عند الله لمن أوفى بعهده وأطاعه من الخيرات باق غير فان ، فلما عنده فاعملوا ، وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا . وقوله : { وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوا أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } ، يقول تعالى ذكره : وليثيبنّ الله الذين صبروا على طاعتهم إياه في السرّاء والضرّاء ، ثوابهم يوم القيامة على صبرهم عليها ومسارعتهم في رضاه ، بأحسن ما كانوا يعملُون من الأعمال دون أسوئها ، وليغفرنّ الله لهم سيئها بفضله .
{ ما عندكم } ، من أعراض الدنيا . { ينفذ } ، ينقضي ويفنى . { وما عند الله } ، من خزائن رحمته ، { باقٍ } لا ينفذ ، وهو تعليل للحكم السابق ودليل على أن نعيم أهل الجنة باق . { وليجزينّ الذين صبروا أجرهم } ، على الفاقة وأذى الكفار ، أو على مشاق التكاليف . وقرأ ابن كثير وعاصم بالنون . { بأحسن ما كانوا يعملون } ، بما يرجع فعله من أعمالهم كالواجبات والمندوبات ، أو بجزاء أحسن من أعمالهم .
« ما عند الله » هو ما ادّخره للمسلمين من خير في الدنيا وفي الآخرة ، كما سننبّه عليه عند قوله تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } [ سورة النحل : 97 ] الآية ؛ فخير الدنيا الموعود به أفضل مما يبذله لهم المشركون ، وخير الآخرة أعظم من الكلّ ، فالعندية هنا بمعنى الادِّخار لهم ، كما تقول : لك عندي كذا ، وليست عندية ملك الله تعالى كما في قوله : { وعنده مفاتح الغيب } [ سورة الأنعام : 59 ] وقوله { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } [ سورة الحجر : 21 ] وقوله : { وما عند الله باق } .
و { إنما } هذه مركّبة من ( إن ) و ( مَا ) الموصولة ، فحقّها أن تكتب مفصولة ( ما ) عن ( إنّ ) لأنها ليست ( ما ) الكافّة ، ولكنها كتبت في المصحف موصولة اعتباراً لحالة النّطق ولم يكن وصل أمثالها مطّرداً في جميع المواضع من المصحف .
ومعنى { إن كنتم تعلمون } إن كنتم تعلمون حقيقة عواقب الأشياء ولا يغرّكم العاجل . وفيه حثّ لهم على التأمّل والعلم .
وجملة { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } تذييل وتعليل لمضمون جملة { إنما عند الله هو خير لكم } بأن ما عند الله لهم خير متجدّد لا نفاد له ، وأن ما يعطيهم المشركون محدود نافد لأن خزائن الناس صائرة إلى النفاد بالإعطاء وخزائن الله باقية .
والنفاد : الانقراض . والبقاء : عدم الفناء .
أي ما عند الله لا يفنى فالأجدر الاعتماد على عطاء الله الموعود على الإسلام دون الاعتماد على عطاء الناس الذين ينفَد رزقهم ولو كَثُر .
وهذا الكلام جرى مجرى التذييل لما قبله ، وأرسل إرسال المثل فيحمل على أعمّ ، ولذلك كان ضمير { عندكم } عائداً إلى جميع الناس بقرينة التذييل والمثل ، وبقرينة المقابلة بما عند لله ، أي ما عندكم أيها الناس ما عند الموعود وما عند الواعد ، لأن المنهيّين عن نقض العهد ليس بيدهم شيء .
ولما كان في نهيهم عن أخذ ما يعدهم به المشركون حَمْلٌ لهم على حرماننِ أنفسهم من ذلك النّفع العاجل وُعِدو الجزاء على صبرهم بقوله تعالى : { وليجزينّ الذين صبروا أجرهم } .
قرأه الجمهور { وليجزين } بياء الغيبة . والضمير عائد إلى اسم الجلالة من قوله تعالى : { بعهد الله } وما بعده ، فهو النّاهي والواعد فلا جرم كان هو المجازي على امتثال أمره ونهيه .
وقرأه ابن كثير وعاصم وابن ذكوان عن ابن عمر في إحدى روايتين عنه وأبو جعفرَ بنون العظمة فهو التفات .
و { أجرهم } منصوب على المفعولية الثانية ل« يَجزين » بتضمينه معنى الإعطاء المتعدّي إلى مفعولين .
والباء للسببية . و « أحسن » صيغة تفضيل مستعملة للمبالغة في الحسن . كما في قوله تعالى : { قال ربّ السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه } [ سورة يوسف : 33 ] ، أي بسبب عملهم البالغ في الحسن وهو عمل الدوام على الإسلام مع تجرّع ألم الفتنة من المشركين . وقد أكد الوعد بلام القسم ونون التوكيد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.