مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَا عِندَكُمۡ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٖۗ وَلَنَجۡزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوٓاْ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (96)

ثم ذكر الدليل القاطع على أن ما عند الله خير مما يجدونه من طيبات الدنيا فقال : { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } وفيه بحثان :

البحث الأول : الحس شاهد بأن خيرات الدنيا منقطعة ، والعقل دل على أن خيرات الآخرة باقية ، والباقي خير من المنقطع ، والدليل عليه أن هذا المنقطع إما أن يقال : إنه كان خيرا عاليا شريفا أو كان خيرا دنيا خسيسا ، فإن قلنا : إنه كان خيرا عاليا شريفا فالعلم بأنه سينقطع يجعله منغصا حال حصوله ، وأما حال حصول ذلك الانقطاع فإنها تعظم الحسرة والحزن ، وكون تلك النعمة العالية الشريفة كذلك ينغص فيها ويقلل مرتبتها وتفتر الرغبة فيها ، وأما إن قلنا : إن تلك النعمة المنقطعة كانت من الخيرات الخسيسة فهمنا من الظاهر أن ذلك الخير الدائم وجب أن يكون أفضل من ذلك الخير المنقطع ، فثبت بهذا أن قوله تعالى : { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } برهان قاطع على أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا .

البحث الثاني : أن قوله : { وما عند الله باق } يدل على أن نعيم أهل الجنة باق لا ينقطع . وقال جهم بن صفوان : إنه منقطع والآية حجة عليه .

واعلم أن المؤمن إذا آمن بالله فقد التزم شرائع الإسلام والإيمان ، وحينئذ يجب عليه أمران : أحدهما : أن يصبر على ذلك الالتزام وأن لا يرجع عنه وأن لا ينقضه بعد ثبوته . والثاني : أن يأتي بكل ما هو من شرائع الإسلام ولوازمه .

إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه ، فقال : { ولنجزين الذين صبروا } أي على ما التزموه من شرائع الإسلام { بأحسن ما كانوا يعملون } أي يجزيهم على أحسن أعمالهم ، وذلك لأن المؤمن قد يأتي بالمباحات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شك أنه على فعل المندوبات والواجبات يثاب لا على فعل المباحات ، فلهذا قال : { ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }