إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{مَا عِندَكُمۡ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٖۗ وَلَنَجۡزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوٓاْ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (96)

كما أن قوله تعالى : { مَا عِندَكُمْ } ، تعليلٌ للخيرية بطريق الاستئنافِ ، أي : ما تتمتعون به من نعيم الدنيا وإن جل ، بل الدنيا وما فيها جميعاً ، { يَنفَدُ } ، وإن جمّ عددُه ، وينقضي وإن طال أمدُه . { وَمَا عِندَ الله } من خزائن رحمتِه الدنيوية والأخروية { بَاقٍ } لا نفادَ له ، أما الأخرويةُ فظاهرةٌ ، وأما الدنيويةُ فحيث كانت موصولةً بالأخروية ومستتبِعةً لها ، فقد انتظمت في سِمْط الباقيات .

وفي إيثار الاسمِ على صيغة المضارعِ من الدلالة على الدوام ما لا يخفى ، وقوله تعالى : { وَلَنَجْزِيَنَّ } ، بنون العظمة على طريقة الالتفاتِ ، تكريرُ الوعد المستفادِ من قوله تعالى : { إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ، على نهج التوكيدِ القسميِّ مبالغةٌ في الحمل على الثبات في الدين ، والالتفاتُ عما يقتضيه ظاهرُ الحال من أن يقال : ولنجزينكم أجركم بأحسن ما كنتم تعملون ، للتوسل إلى التعرض لأعمالهم والإشعارِ بعليتها للجزاء ، أي : والله لنجزين { الذين صَبَرُواْ } على أذية المشركين ، ومشاقِّ الإسلام التي من جملتها الوفاءُ بالعهود والفقرُ ، وقرئ بالياء من غير التفاتٍ ، { أَجْرَهُمْ } مفعولٌ ثانٍ لنجزين ، أي : لنُعطِينّهم أجرَهم الخاصَّ بهم بمقابلة صبرِهم على ما مُنوا به من الأمور المذكورة ، { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، أي : لنجزينهم بما كانوا يعملونه من الصبر المذكورِ ، وإنما أضيف إليه الأحسنُ ؛ للإشعار بكمال حسنِه ، كما في قوله سبحانه : { وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } ، لا لإفادة قصرِ الجزاءِ على الأحسن منه دون الحسَن ، فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد ، لاسيما بعد قوله تعالى : { أَجْرَهُمْ } و { لنجزينهم } ، بحسب أحسنِ أفرادِ أعمالِهم ، على معنى : لنعطينهم بمقابلة الفردِ الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيه بمقابلة الفردِ الأعلى منها من الأجر الجزيلِ ، لا أنا نُعطي الأجر بحسب أفرادِها المتفاوتةِ في مراتب الحسن ، بأن نجزيَ الحسنَ منها بالأجر الحسَنِ ، والأحسنَ بالأحسن . وفيه ما لا يخفى من العُهدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزَعٍ ، ونظمِه في سلك الصبر الجميل ، أو لنجزينهم بجزاءٍ أحسنَ من أعمالهم . وأما التفسيرُ بما ترجح فعلُه من أعمالهم ، كالواجبات والمندوبات ، أو بما ترجح تركُه أيضاً ، كالمحرمات والمكروهات ، دلالةً على أن ذلك هو المدارُ للجزاء دون ما يستوي فعلُه وتركُه كالمباحات ، فلا يساعده مقامُ الحثِّ على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنةِ المخصوصة والترغيبِ في تحصيل ثمراتها ، بل التعرضُ لإخراج بعض أعمالِهم عن مدارية الجزاءِ من قبيل تحجيرِ الرحمةِ الواسعة في مقام توسيعِ حِماها .