تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } قال : هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ، ويكف عَمَّن كف عنه حتى نزلت سورة براءة ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال : هذه منسوخة بقوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وفي هذا نظر ؛ لأن قوله : { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } إنما هو تَهْييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله ، أي : كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم ، كما قال : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] ؛ ولهذا قال في هذه الآية : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي : لتكن همتكم منبعثة على قتالهم ، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم ، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها ، قصاصًا .

وقد حكى عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة ، { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } الآية [ الحج : 39 ] وهو الأشهر ، وبه ورد الحديث .

وقوله : { وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي : قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي - كما قاله الحسن البصري - من المَثُلة ، والغُلُول ، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم ، والرهبان وأصحاب الصوامع ، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ، كما قال ذلك ابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم . ولهذا جاء في صحيح مسلم ، عن بُرَيدة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تَغُلّوا ، ولا تَغْدروا ، ولا تُمَثِّلُوا ، ولا تقتلوا وليدًا ، ولا أصحاب الصوامع " . رواه الإمام أحمد{[3385]} .

وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَث جيوشه قال : " اخرجوا بسم الله ، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، لا تغدروا ولا تغلوا ، ولا تُمَثلوا ، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصّوامع " . رواه الإمام أحمد{[3386]} .

ولأبي داود ، عن أنس مرفوعًا ، نحوه{[3387]} . وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجُدت امرأة في بعض مغازي النبيّ صلى الله عليه وسلم مقتولة ، فأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان{[3388]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا مُصعب بن سَلام ، حدثنا الأجلح ، عن قيس بن أبي مسلم ، عن رِبْعي ابن حِرَاش ، قال : سمعت حُذَيفة يقول : ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا : واحدًا ، وثلاثة ، وخمسة ، وسبعة ، وتسعة ، وأحدَ عشَرَ ، فضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مثلا وترك سائرَها ، قال : " إن قومًا كانوا أهلَ ضَعْف ومسكنة ، قاتلهم أهلُ تجبر وعداء ، فأظهر الله أهل الضعف عليهم ، فعمدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه " {[3389]} .

هذا حديث حَسَنُ الإسناد . ومعناه : أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء ، فاعتَدوا عليهم واستعملوهم فيما لا يليق بهم ، أسخطوا الله عليهم بسبب{[3390]} هذا الاعتداء . والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا .

ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال ، نبَّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون{[3391]} عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل ؛ ولهذا قال : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } قال أبو مالك : أي : ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل .

وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والربيع ابن أنس في قوله : { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } يقول : الشرك أشد من القتل .

وقوله : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } كما جاء في الصحيحين : " إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، وإنها ساعتي هذه ، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شجره ، ولا يُخْتَلى خَلاه . فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم " {[3392]} .

يعني بذلك - صلوات الله وسلامه عليه - قتالَه أهلها يومَ فتح مكة ، فإنه فتحها عنوة ، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة ، وقيل : صلحًا ؛ لقوله : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .

[ وقد حكى القرطبي : أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ . قال قتادة : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . قال مقاتل بن حيان : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وفي هذا نظر ]{[3393]} .

وقوله : { حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } يقول تعالى : لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يَبْدَؤوكم بالقتال فيه ، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصيال{[3394]} كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال ، لَمَّا تألبت عليه بطونُ قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ، ثم كف الله القتال بينهم فقال : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [ الفتح : 24 ] ، ، وقال : { وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الفتح : 25 ] .


[3385]:صحيح مسلم برقم (1731) والمسند (5/352).
[3386]:المسند (1/300).
[3387]:سنن أبي داود برقم (2614).
[3388]:صحيح البخاري برقم (3015) وصحيح مسلم برقم (1744).
[3389]:المسند (5/407).
[3390]:في جـ: "لسبب".
[3391]:في جـ: "مقيمون".
[3392]:صحيح البخاري برقم (1834) وصحيح مسلم برقم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3393]:زيادة من جـ، أ.
[3394]:في أ: "للقتال".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ }

اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، فقال بعضهم : هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك . وقالوا : أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين ، والكفّ عمن كفّ عنهم ، ثم نسخت ببراءة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، وابن أبي جعفر ، عن أبي جعفر ، عن الربيع في قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ } قال : هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من يقاتله ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزلت براءة . ولم يذكر عبد الرحمن «المدينة » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ }إلى آخر الآية . قال : قد نسخ هذا ، وقرأ قول الله : { وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلَونَكُمْ كافّةً }وهذه الناسخة ، وقرأ : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } حتى بلغ : { فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدَتْمُوُهُمْ إلى : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيم . }

وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار لم ينسخ ، وإنما الاعتداء الذي نهاهم الله عنه هو نهيه عن قتل النساء والذراري . قالوا : والنهي عن قتلهم ثابت حكمه اليوم . قالوا : فلا شيء نسخ من حكم هذه الآية . ذكر من قال ذلك :

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن صدقة الدمشقي ، عن يحيى بن يحيى الغساني ، قال : كتبت إلى عمر بن العزيز أسأله عن قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ }قال : فكتب إليّ أن ذلك في النساء والذرية ومن لم ينصب لك الحرب منهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : { وَقاتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ } لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بقتال الكفار .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ } يقول : لا تقتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكفّ يده ، فإن فعلتم هذا فقد اعتديتم .

حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطأة : إني وجدت آية في كتاب الله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ } أي لا تقاتل من لا يقاتلك ، يعني النساء والصبيان والرهبان .

وأولى هذين القولين بالصواب ، القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكم ، والتحكم لا يعجز عنه أحد .

وقد دللنا على معنى النسخ والمعنى الذي من قبله يثبت صحة النسخ بما قد أغنى عن إعادته في هذه الموضع .

فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما وصفنا : وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله وسبيله : طريقه الذي أوضحه ودينه الذي شرعه لعباده . يقول لهم تعالى ذكره : قاتلوا في طاعتي ، وعلى ما شرعت لكم من ديني ، وادعوا إليه من ولَّى عنه ، واستكبر بالأيدي والألسن ، حتى ينيبوا إلى طاعتي ، أو يعطوكم الجزية صغارا إن كانوا أهل كتاب . وأمرهم تعالى ذكره بقتال من كان منه قتال من مقاتلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال من نسائهم وذراريهم ، فإنهم أموال وخول لهم إذا غلب المقاتلون منهم فقهروا ، فذلك معنى قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ }لأنه أباح الكفّ عمن كفّ ، فلم يقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا .

فمعنى قوله : وَلا تَعْتَدُوا لا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابين والمجوس ، إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِين الذين يجاوزون حدوده ، فيستحلون ما حرّمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حرم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

{ وقاتلوا في سبيل الله } جاهدوا لإعلاء كلمته وإعزاز دينه . { الذين يقاتلونكم } قيل : كان ذلك قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة :المقاتلين منهم والمحاجزين . وقيل معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهبان والنساء ، أو الكفرة كلهم فإنهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده . ويؤيد الأول ما روى : أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة -شرفها الله- ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم . أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت { ولا تعتدوا } بابتداء القتال ، أو بقتال المعاهد ، أو المفاجأة به من غير دعوة ، أو المثلة ، أو قتل من نهيتم عن قتله . { إن الله لا يحب المعتدين } لا يريد بهم الخير .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

جملة { وقاتلوا } معطوفة على جملة { وليس البر } [ البقرة : 189 ] الخ ، وهو استطراد دعا إليه استعداد النبي صلى الله عليه وسلم لعُمرة القضاء سنة ست وتوقعُ المسلمين غدر المشركين بالعهد ، وهو قتال متوقع لقَصْد الدفاع لقوله : { الذين يقاتلونكم } ، وهذه الآية أول آية نزلت في القتال وعن أبي بكر الصديق أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } في [ سورة الحج : 39 ] ورجحه ابن العربي بأنها مكية وآية سورة البقرة مدنية .

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله أرسل عثمان بن عفان إلى أهل مكة فأرجف بأنهم قتلوه فبايع الناس الرسولَ على الموت في قتال العدو ثم انكشف الأمر عن سلامة عثمان .

ونزول هذه الآيات عقب الآيات التي أشارت إلى الإحرام بالعمرة والتي نراها نزلت في شأن الخروج إلى الحديبية ينبىء بأن المشركين كانوا قد أضمروا ضد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ثم أعرضوا عن ذلك لما رأوا تهيؤ المسلمين لقتالهم ، فقوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } [ البقرة : 191 ] إرشاد للمسلمين بما فيه صلاح لهم يومئذٍ ، ألا ترى أنه لما انقضت الآيات المتكلمة عن القتال عاد الكلام إلى الغرض الذي فارقته وذلك قوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] ، الآيات على أنه قد وقع في صلح الحديبية ضرب مدة بين المسلمين والمشركين لا يقاتل فريق منهم الآخر فخاف المسلمون عام عمرة القضاء أن يغدر بهم المشركون إذا حلوا ببلدهم وألاّ يفوا لهم فيصدوهم عن العمرة فأمروا بقتالهم إن هم فعلوا ذلك .

وهذا إذن في قتال الدفاع لدفع هجوم العدو ثم نزلت بعدها آية براءة : { وقاتلوا المشركين كافة } [ التوبة : 36 ] ناسخة لمفهوم هذه الآية عند من يرى نسخ المفهوم ولا يرى الزيادة على النص نسخاً ، وهي أيضاً ناسخة لها عند من يرى الزيادة على النص نسخاً ولا يرى نسخ المفهوم ، وهي وإن نزلت لسبب خاص فهي عامة في كل حال يبادىء المشركون فيه المسلمين بالقتال ، لأن السبب لا يخصص .

وعن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن هاته الآية محكمة لم تنسخ ، لأن المراد بالذين يقاتلونكم الذين هم متهيئون لقتالكم أي لا تقاتِلوا الشيوخ والنساء والصبيان ، أي القيد لإخراج طائفة من المقاتلين لا لإخراج المحاجزين ، وقيل : المراد الكفار كلهم ، فإنهم بصدد أن يقاتلوا . ذكره في « الكشاف » ، أي ففعل { يقاتلونكم } مستعمل في مقارنة الفعل والتهيؤ له كما تقدم في قوله تعالى : { إن ترك خيراً } [ البقرة : 180 ] .

والمقاتلة مفاعلة وهي حصول الفعل من جانبين ، ولما كان فعلها وهو القتل لا يمكن حصوله من جانبين ؛ لأن أحد الجانبين إذا قتل لم يستطع أن يَقْتل كانت المفاعلة في هذه المادة بمعنى مفاعلة أسباب القتل أي المحاربة ، فقوله { وقاتلوا } بمعنى وحاربوا والقتال الحرب بجميع أحوالها من هجوم ومنع سبل وحصار وإغارة واستيلاء على بلاد أو حصون .

وإذا أسندت المفاعلة إلى أحد فاعلَيْها فالمقصود أنه هو المبتدىء بالفعل ، ولهذا قال تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله } فجعل فاعل المفاعلة المسلمين ثم قال : { الذين يقاتلونكم } فجعل فاعله ضمير عدوهم ، فلزم أن يكون المراد دافعوا الذين يبتدئونكم .

والمراد بالمبادأة دلائل القصد للحرب بحيث يتبين المسلمون أن الأعداء خرجوا لحربهم وليس المراد حتى يضربوا ويهجموا ؛ لأن تلك الحالة يفوت على المسلمين تداركها ، وهذا الحكم عام في الأشخاص لا محالة ، وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأمكنة والأزمنة على رأي المحققين ، أو هو مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع ، ولهذا قال تعالى بعد ذلك : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه } [ البقرة : 191 ] تخصيصاً أو تقييداً ببعض البقاع .

فقوله : { ولا تعتدوا أي لا تبتدئوا بالقتال وقوله : إن الله لا يحب المعتدين } تحذير من الاعتداء ؛ وذلك مسالمة للعدو واستبقاء لهم وإمهال حتى يجيئوا مؤمنين ، وقيل : أراد ولا تعتدوا في القتال إن قاتلتم ففسر الاعتداء بوجوه كثيرة ترجع إلى تجاوز أحكام الحرب والاعتداء الابتداء بالظلم وتقدم عند قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } آنفاً .