قوله تعالى : { فِي سَبِيلِ اللَّهِ } متعلَّقٌ ب " قاتلوا " على أحد معنيين : إمَّا أن تقدِّر مضافاً ، أي : في نصرةِ سبيلِ الله تعالى ، والمرادُ بالسبيلِ : دينُ الله ، لأنَّ السبيلَ في الأصل هو الطريقُ ، فُتُجوِّزَ به عن الدِّين ، لمَّا كان طريقاً إلى الله تعالى روى أبو موسى : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، ومجَّد ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم - سُئِلَ عمَّن يُقاتِلُ في سبيل الله تعالى ، فقال : " مَنْ قاتل ؛ لتكون كلمةُ الله هي العُليا ، ولا يُقاتل رياءً ولا سمعةً ؛ وهو في سبيل الله{[2791]} " .
وإمَّا أن تُضَمِّن " قَاتِلُوا " معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دِينِ اللِه تعالى ، " والَّذِيِنَ يُقَاتِلُونَكُم " مفعول " قاتلوا " .
اعلم ، أنَّه لمَّا أمر بالتقوى في الآية المتقدِّمة أمر في هذه الآية الكريمة بأشدِّ أقسامِ التقوى ، وأشقها على النَّفس ، وهو قتلُ أعداء الله تعالى .
قال الربيع بن أنس : هذه أوَّل آية نزلت في القتال ، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وشرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعظَّم - يُقاتلُ مَنْ قاتلهُ ، ويَكُفُّ عن قتال منْ لمْ يقاتله إلى أن نزل قوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 5 ] قاتلوا ، أو لم يقاتلوا{[2792]} فصارت الآية منسوخةً بها .
وقيل : نُسخَ بقوله : { اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِين } قريبٌ من سبعين آيةً ، وعلى هذا ، فقوله : " وَلاَ تَعْتَدُوا " أي : لا تَبْدُءوهم بالقتال ، وروي عن أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - أنَّ أوَّل آيةٍ نزلت في القتال قوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } الحج : 39 ] والأوَّل أكثر{[2793]} .
وقال ابن عبَّاس وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهدٌ - رضي الله عنهم - هذه الآية محكمةٌ غير منسوخة ؛ أُمِر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، ومَجَّد ، وعَظَّم - بقتال المُقاتلين{[2794]} .
ومعنى قوله : " وَلاَ تَعْتَدُوا " أي : لا تقتُلُوا النِّسَاء والصِّبيانَ ، والشيخَ الكبير والرُّهبان ، ولا من ألقى إليكم السَّلَمَ{[2795]} ؛ قاله ابن عبَّاس ومجاهد وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبَّاس : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ؛ وذلك أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - خرج مع أصحابه - رضي الله عنهم - إلى العُمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة ، فنزَلُوا الحُديبية ، وهو موضعٌ كثيرُ الشَّجر ، والماء ، فصدَّهم المُشركون عن دخول البيت الحرام ، فأقامَ شهراً ، لا يقدر على ذلك ، ثم صالَحُوهُ على أنْ يَرجع ذلك العام ، ويرجع إليهم في العام الثَّاني ، ويَتْرُكون له مكَّة ثلاثَ أيامٍ ، حتَّى يَطوفَ ، وَينْحَرَ الهَدْي ، ويَفْعَل مَا يَشَاءُ ، فرضي الرَّسُولُ - صلواتُ الله وسلامُهُ عليه دائماً أبداً - بذلك ، فلمَّا كان العامُ المقبل ، تجهَّز رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، ومَجَّد ، وعَظَّم - وأصحابه لُعْمرة القضاء ، وخافوا ألاَّ تَفِي قريشٌ بما قالوا ، وأن يَصُدُّوهم عن البيت ، وكره أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالَهُمْ في الشهر الحرام ، وفي الحرَم ، فأنزل الله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يعنى محرمين { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } يعني قُرَيْشاً " وَلاَ تَعْتَدُوا " فتَبْدَءوا بالقتالِ في الحَرَمِ محرمين{[2796]} .
فصل في اختلافهم في المراد من قوله { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ }
اختلفُوا في المراد بقوله : { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } : إمَّا على وجه الدَّفع عن الحجِّ ، أو على وجه المقاتلة ابتداءً .
وقيل : قاتلوا كُلَّ مَنْ فيه أهليةٌ للقتالِ سوى جُنحٍ للسَّلم ؛ قال تعالى :
{ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } [ الأنفال : 61 ] .
فإن قيل : هب أنه لا نسخ في الآية ؛ فما السَّبب في أنَّ الله تبارك وتعالى أمر أوَّلاً بقتال من يقاتل ، ثُمَّ في آخر الأمر ، أذن في قتالهم ، سواءٌ قاتلوا ، أو لم يقاتلوا ؟
فالجواب : أنَّ في أوَّل الأمر كان المسلمون قليلين ، وكانت المصحلة تقتضي استعمال الرِّفق ، والمجاملة ، فلمَّا قوي الإسلام ، وكَثُر الجمع ، وأقام مَنْ أقام منهم على الشِّرك بعد ظهور المعجزات ، وتكرُّرها عليهم ، وحصل اليأس من إسلامهم ، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.