جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (190)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ }

اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، فقال بعضهم : هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك . وقالوا : أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين ، والكفّ عمن كفّ عنهم ، ثم نسخت ببراءة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، وابن أبي جعفر ، عن أبي جعفر ، عن الربيع في قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ } قال : هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من يقاتله ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزلت براءة . ولم يذكر عبد الرحمن «المدينة » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ }إلى آخر الآية . قال : قد نسخ هذا ، وقرأ قول الله : { وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلَونَكُمْ كافّةً }وهذه الناسخة ، وقرأ : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } حتى بلغ : { فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدَتْمُوُهُمْ إلى : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيم . }

وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار لم ينسخ ، وإنما الاعتداء الذي نهاهم الله عنه هو نهيه عن قتل النساء والذراري . قالوا : والنهي عن قتلهم ثابت حكمه اليوم . قالوا : فلا شيء نسخ من حكم هذه الآية . ذكر من قال ذلك :

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن صدقة الدمشقي ، عن يحيى بن يحيى الغساني ، قال : كتبت إلى عمر بن العزيز أسأله عن قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ }قال : فكتب إليّ أن ذلك في النساء والذرية ومن لم ينصب لك الحرب منهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : { وَقاتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ } لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بقتال الكفار .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ } يقول : لا تقتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكفّ يده ، فإن فعلتم هذا فقد اعتديتم .

حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطأة : إني وجدت آية في كتاب الله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ } أي لا تقاتل من لا يقاتلك ، يعني النساء والصبيان والرهبان .

وأولى هذين القولين بالصواب ، القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكم ، والتحكم لا يعجز عنه أحد .

وقد دللنا على معنى النسخ والمعنى الذي من قبله يثبت صحة النسخ بما قد أغنى عن إعادته في هذه الموضع .

فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما وصفنا : وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله وسبيله : طريقه الذي أوضحه ودينه الذي شرعه لعباده . يقول لهم تعالى ذكره : قاتلوا في طاعتي ، وعلى ما شرعت لكم من ديني ، وادعوا إليه من ولَّى عنه ، واستكبر بالأيدي والألسن ، حتى ينيبوا إلى طاعتي ، أو يعطوكم الجزية صغارا إن كانوا أهل كتاب . وأمرهم تعالى ذكره بقتال من كان منه قتال من مقاتلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال من نسائهم وذراريهم ، فإنهم أموال وخول لهم إذا غلب المقاتلون منهم فقهروا ، فذلك معنى قوله : { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ }لأنه أباح الكفّ عمن كفّ ، فلم يقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا .

فمعنى قوله : وَلا تَعْتَدُوا لا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابين والمجوس ، إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِين الذين يجاوزون حدوده ، فيستحلون ما حرّمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حرم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم .