تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ثَمَّ رَأَيۡتَ نَعِيمٗا وَمُلۡكٗا كَبِيرًا} (20)

وقوله : { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا } أي : إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة ، وكثرتهم ، وصباحة وجوههم ، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم ، حسبتهم لؤلؤا منثورا . ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن .

قال قتاده ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم ، كل خادم على عمل ما عليه صاحبه .

وقوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ } أي : وإذا رأيت يا محمد ، { ثَمَّ } أي : هناك{[29609]} ، يعني في الجنة ونعيمها وسَعَتها وارتفاعها وما فيها من الحَبْرَة والسرور ، { رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا } أي : مملكةً لله هُناك عظيمةً وسلطانًا باهرًا .

وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها ، وآخر أهل الجنة دخولا إليها : إن لك مثلَ الدنيا وعشرة أمثالها .

وقد قَدّمنا{[29610]} في الحديث المَرويّ من طريق ثُوَير بن أبي فاختة ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي{[29611]} سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه " . فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة ، فما ظنك بما هو أعلى منزلة ، وأحظى عنده تعالى .

وقد روى الطبراني هاهنا حديثًا غريبًا جدًا فقال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي ، حدثنا عفيف{[29612]} بن سالم ، عن أيوب بن عتبة ، عن عطاء ، عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال له رسول الله : " سل واستفهم " . فقال : يا رسول الله ، فُضّلْتُم علينا بالصور والألوان والنبوة ، أفرأيتَ إن آمنتُ بما آمنتَ به وعملتُ بمثل ما عملتَ به ، إني لكائن معكَ في الجنة ؟ قال : " نعم ، والذي نفسي بيده ، إنه لَيُرَى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عَهدٌ عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له مائة ألف حسنة ، وأربعة وعشرون ألف حسنة " . فقال رجل : كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وُضِعَ على جبل لأثقله ، فتقوم النعمة - أو : نعَم الله - فتكاد تستنفذ ذلك كله ، إلا أن يَتَغَمّده الله برحمته " . ونزلت هذه السورة : { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ } إلى قوله : { وَمُلْكًا كَبِيرًا } فقال الحبشي : وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة ؟ قال : " نعم " . فاستبكى حتى فاضت نفسه . قال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدليه في حُفرَته بيده{[29613]} .


[29609]:- (2) في أ: "أي هنالك".
[29610]:- (3) عند تفسير الآية: 23 من سورة "القيامة".
[29611]:- (4) في أ: "مسيرة ألف".
[29612]:- (1) في م، أ، هـ: "حدثنا عقبة" والمثبت من المعجم الأوسط للطبراني.
[29613]:- (2) المعجم الأوسط برقم (4774) "مجمع البحرين"، وقال: "لا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عفيف".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ثَمَّ رَأَيۡتَ نَعِيمٗا وَمُلۡكٗا كَبِيرًا} (20)

وقوله : إذَا رأيْتَ ثمّ رأيْتَ نَعِيما يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإذا نظرت ببصرك يا محمد ، ورميت بطرفك فيما أعطيتُ هؤلاء الأبرار في الجنة من الكرامة . وعُني بقوله : ثَمّ الجنة رأيْتَ نَعِيما ، وذلك أن أدناهم منزلة من ينظر في مُلكه فيما قيل في مسيرة ألفي عام ، يُرى أقصاه ، كما يرى أدناه .

وقد اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله لم يذكر مفعول رأيت الأول ، فقال بعض نحويي البصرة : إنما فعل ذلك لأنه يريد رؤية لا تتعدى ، كما تقول : ظننت في الدار ، أخبر بمكان ظنه ، فأخبر بمكان رؤيته . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما فعل ذلك لأن معناه : وإذا رأيت ما ثم رأيت نعيما قال : وصلح إضمار ما كما قيل : لقد تقطع بينكم ، يريد : ما بينكم قال : ويقال : إذا رأيت ثم يريد : إذا نظرت ثم ، أي إذا رميت ببصرك هناك رأيت نعيما .

وقوله : مُلْكا كَبِيرا يقول : ورأيت مع النعيم الذي ترى لهم ثَمّ مُلْكا كبيرا . وقيل : إن ذلك الملك الكبير : تسليم الملائكة عليهم ، واستئذانهم عليهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني من سمع مجاهدا يقول : وَإذَا رأيْتَ ثَمّ رأيْتَ نَعِيما وَمُلْكا كَبِيرا قال : تسليم الملائكة .

قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : سمعت سفيان يقول في قوله : مُلْكا كَبِيرا قال : بلغنا أنه تسليم الملائكة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا الأشجعيّ ، في قوله : وَإذَا رأيْتَ ثَمّ رأيْتَ نَعِيما وَمُلْكا كَبِيرا قال : فسّرها سفيان قال : تستأذن الملائكة عليهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَإذَا رأيْتَ ثَمّ رأيْتَ نَعِيما وَمُلْكا كَبِيرا قال استئذان الملائكة عليهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ثَمَّ رَأَيۡتَ نَعِيمٗا وَمُلۡكٗا كَبِيرًا} (20)

وإذا رأيت ثم ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر لأنه عام معناه أن بصرك أينما وقع رأيت نعيما وملكا كبيرا واسعا وفي الحديث أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه هذا وللعارف أكبر من ذلك وهو أن تنتقش نفسه بجلايا الملك وخفايا الملكوت فيستضيء بأنوار قدس الجبروت .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ثَمَّ رَأَيۡتَ نَعِيمٗا وَمُلۡكٗا كَبِيرًا} (20)

ثم كرر ذكر الرؤية مبالغة ، و { ثم } ظرف والعامل فيه { رأيت } أو معناه ؟ وقال الفراء التقدير : { رأيت } ما { ثم } وحذفت ما ، وقرأ حميد الأعرج «ثُم » بضم الثاء ، و «النعيم » : ما هم فيه من حسن عيش ، و «الملك الكبير » قال سفيان : هو استئذان الملائكة وتسليمهم عليهم وتعظيمهم لهم ، فهم في ذلك كالملوك ، وقال أكثر المفسرين : «الملك الكبير » اتساع مواضعهم ، فروي عن عبد الله بن عمر أنه قال : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام كلهم مختلف شغله من شغل أصحابه ، وأدنى أهل الجنة منزلة من ينظر من ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَيۡتَ ثَمَّ رَأَيۡتَ نَعِيمٗا وَمُلۡكٗا كَبِيرًا} (20)

الخطاب لغير معين . و { ثَمّ } إشارة إلى المكان ولا يكون إلاّ ظرفاً والمشار إليه هنا ما جرى ذكره أعني الجنة المذكورة في قوله : { وجزاهم بما صبروا جَنة } [ الإنسان : 12 ] .

وفعل { رأيتَ } الأول منزل منزلة اللازم يدل على حصول الرؤية فقط لا تعلُّقِها بمرئي ، أي إذا وجهت نظرك ، و { رأيتَ } الثاني جواب { إذا } ، أي إذا فتحت عينك ترى نعيماً .

والتقييد ب { إذا } أفاد معنى الشرطية فدل على أن رؤية النعيم لا تتخلف عن بصر المبصر هنالك فأفاد معنى : لا ترى إلاّ نعيماً ، أي بخلاف ما يرى في جهات الدنيا .

وفي قوله : { ومُلْكاً كبيراً } تشبيه بليغ ، أي مثل أحوال المُلك الكبير المتنعِّم ربه .

وفائدة هذا التشبيه تقريب المشبه لِمدارك العقول .

والكبير مستعار للعظيم وهو زائد على النعيم بما فيه من رفعة وتذليل للمصاعب .