تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَجَآءَ ٱلۡمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ لِيُؤۡذَنَ لَهُمۡ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (90)

ثم بَيَّن تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد ، الذين جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، ويبينون له ما هم فيه من الضعف ، وعدم القدرة على الخروج ، وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة .

قال الضحاك ، عن ابن عباس : إنه كان يقرأ : " وَجَاءَ المُعْذَرُون " بالتخفيف ، ويقول : هم أهل العذر .

وكذا روى ابن عيينة ، عن حُمَيد ، عن مجاهد سواء .

قال ابن إسحاق : وبلغني أنهم نَفَر من بني غفار منهم : خُفاف بن إيماء بن رَحَضة .

وهذا القول هو الأظهر في معنى الآية ؛ لأنه قال بعد هذا : { وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : لم يأتوا فيعتذروا .

وقال ابن جُرَيْج عن مجاهد : { وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ } قال : نفر من بني غفار ، جاءوا فاعتذروا فلم يُعذرْهم الله . وكذا قال الحسن ، وقتادة ، ومحمد بن إسحاق ، والقول الأول أظهر{[13771]} والله أعلم ، لما قدمنا من قوله بعده : { وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : وقعد آخرون من الأعراب عن المجيء للاعتذار ، ثم أوعدهم بالعذاب الأليم ، فقال : { سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }


[13771]:- في أ : "أولى".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَجَآءَ ٱلۡمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ لِيُؤۡذَنَ لَهُمۡ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (90)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَجَآءَ الْمُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : وَجاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ ليُؤْذَنَ لَهُمْ في التخلف . وَقَعَدَ عن المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه الّذِينَ كَذّبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وقالوا الكذب ، واعتذروا بالباطل منهم . يقول تعالى ذكره : سيصيب الذين جحدوا توحيد الله ونبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم منهم عذاب أليم .

فإن قال قائل : فكيف قيل : وَجَاءَ المُعَذّرُونَ وقد علمت أن المعذّر في كلام العرب إنما هو الذي يُعَذّر في الأمر ، فلا يبالغ فيه ولا يُحكمه ، وليست هذه صفة هؤلاء ، وإنما صفتهم أنهم كانوا قد اجتهدوا في طلب ما ينهضون به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدوّهم ، وحرصوا على ذلك ، فلم يجدوا إليه سبيل ، فهم بأن يوصفوا بأنهم قد أعذروا أولى وأحقّ منهم بأن يوصفوا بأنهم عذروا . إذا وصفوا بذلك .

فالصواب في ذلك من القراءة ما قرأه ابن عباس ، وذلك ما :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي حماد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، عن أبي روق عن الضحاك ، قال : كان ابن عباس يقرأ : وّجاء المُعْذِرُونَ مخففة ، ويقول : هم أهل العذر .

مع موافقة مجاهد إياه وغيره عليه ؟ قيل : إن معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه ، وإن معناه : وجاء المعتذرون من الأعراب ولكن التاء لما جاورت الذال أدغمت فيها ، فصُيرتا ذالاً مشددة لتقارب مخرج إحداهما من الأخرى ، كما قيل : يَذّكّرون في يتذكرون ، ويذّكر في يتذكر . وخرجت العين من المعذرين إلى الفتح ، لأن حركة التاء من المعتذرين وهي الفتحة نقلت إليها فحركت بما كانت به محركة ، والعرب قد توجه في معنى الاعتذار إلى الإعذار ، فتقول : قد اعتذر فلان في كذا ، يعني : أعذر ، ومن ذلك قول لبيد :

إلى الحَوْلِ ثُمّ اسْمُ السّلامِ عَلَيْكُما *** وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كامِلاً فقدِ اعْتَذَرْ

فقال : فقد اعتذر ، بمعنى : فقد أعذر .

على أن أهل التأويل ، قد اختلفوا في صفة هؤلاء القوم الذين وصفهم الله بأنهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم معذّرين ، فقال بعضهم : كانوا كابين في اعتذارهم ، فلم يعذرهم الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو عبيدة عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، عن الحسين ، قال : كان قتادة يقرأ : وجَاءَ المُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ قال : اعتذروا بالكتب .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وجَاءَ المُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ قال نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا ، فلم يعذرهم الله .

فقد أخبر من ذكرنا من هؤلاء أن هؤلاء القوم إنما كانوا أهل اعتذار بالباطل لا بالحقّ . فغير جائز أن يوصفوا بالإعذار إلا أن يوصفوا بأنهم أعذروا في الاعتذار بالباطل . فأما بالحقّ على ما قاله من حكينا قوله من هؤلاء ، فغير جائز أن يوصفوا به . وقد كان بعضهم يقول : إنما جاءوا معذرين غير جادّين ، يعرضون ما لا يريدون فعله . فمن وجهه إلى هذا التأويل فلا كلفة في ذلك ، غير أني لا أعلم أحدا من أهل العلم بتأويل القرآن وجّه تأويله إلى ذلك ، فأستحبّ القول به .

وبعد ، فإن الذي عليه من القراءة قرّاء الأمصار التشديد في الذال ، أعني من قوله : المُعَذّرُونَ ففي ذلك دليل على صحة تأويل من تأوّله بمعنى الاعتذار لأن القوم الذين وصفوا بذلك لم يكلفوا أمرا عذروا فيه ، وإنما كانوا فرقتين إما مجتهد طائع وإما منافق فاسق لأمر الله مخالف ، فليس في الفريقين موصوف بالتعذير في الشخوص مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو معذر مبالغ ، أو معتذر . فإذا كان ذلك كذلك ، وكانت الحجة من القرّاء مجمعة على تشديد الذال من «المذرين » ، علم أن معناه ما وصفناه من التأويل . وقد ذكر عن مجاهد في ذلك موافقة ابن عباس .

حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن حميد ، قال : قرأ مجاهد : «وَجاءَ المُعْذِرُونَ » مخففة ، وقال : هم أهل العلم العذر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان المعذرون .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَجَآءَ ٱلۡمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ لِيُؤۡذَنَ لَهُمۡ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (90)

{ وجاء المعذّرون من الأعراب ليُؤذن لهم } يعني أسدا وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال . وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت طيئ على أهالينا ومواشينا . والمعذر أما من عذر في الأمر إذا قصر فيه موهما أن له عذرا ولا عذر له ، أو من اعتذر إذا مهد العذر بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ، ويجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع لكن لم يقرأ بهما . وقرأ يعقوب { المعذَّرون } من أعذر إذا اجتهد في العذر . وقرئ { المعَّذرون } بتشديد العين والذال على أنه من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحن إذ التاء لا تدغم في العين ، وقد اختلف في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع أو بالصحة فيكون قوله : { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } في غيرهم وهم منافقو الأعراب كذبوا الله ورسوله في ادعاء الإيمان وإن كانوا هم الأولين فكذبهم بالاعتذار . { سيصيب الذين كفروا منهم } من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره { عذاب أليم } بالقتل والنار .