فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَجَآءَ ٱلۡمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ لِيُؤۡذَنَ لَهُمۡ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (90)

قرأ الأعرج والضحاك { المعذرون } بالتخفيف ، من أعذر ، ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم ، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس . قال في الصحاح : وكان ابن عباس يقرأ : { وجاء المعذرون } مخففة من أعذر ، ويقول : والله هكذا أنزلت . قال النحاس : إلا أن مدارها على الكلبي ، وهي من أعذر : إذا بالغ في العذر ، ومنه " من أنذر فقد أعذر » أي : بالغ في العذر . وقرأ الجمهور { المعذرون } بالتشديد ففيه وجهان ، أحدهما : أن يكون أصله المعتذرون فأدغمت التاء في الذال ، وهم : الذين لهم عذر ، ومنه قول لبيد :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

فالمعذرون على هذا : هم المحقون في اعتذارهم . وقد روي هذا عن الفراء ، والزجاج ، وابن الأنباري ، وقيل : هو من عذّر ، وهو الذي يعتذر ولا عذر له ، يقال عذر في الأمر : إذا قصر واعتذر بما ليس بعذر ، ذكره الجوهري وصاحب الكشاف ؛ فالمعذرون على هذا : هم المبطلون ، لأنهم اعتذروا بأعذار باطلة لا أصل لها . وروي عن الأخفش ، والفراء ، وأبي حاتم ، وأبي عبيد ، أنه يجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع . والمعنى : أنه جاء هؤلاء من الأعراب بما جاءوا به من الأعذار بحق أو بباطل على كلا التفسيرين ؛ لأجل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخلف عن الغزو ، وطائفة أخرى لم يعتذروا ، بل قعدوا عن الغزو لغير عذر ، وهم منافقو الأعراب الذين كذبوا الله ورسوله ، ولم يؤمنوا ولا صدّقوا ، ثم توعدهم الله سبحانه ، فقال : { سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ } أي : من الأعراب ، وهم الذين اعتذروا بالأعذار الباطلة ، والذين لم يعتذروا ، بل كذبوا بالله ورسوله { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : كثير الألم ، فيصدق على عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة .

وقد أخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب } أي : أهل العذر منهم . وروى ابن أبي حاتم ، عنه ، نحو ذلك . وأخرج ابن الأنباري في كتاب ( الأضداد ) عنه أيضاً أنه كان يقول : «لعن الله المعذرين » ويقرأ بالتشديد كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد : هو المظهر للعذر اعتلالاً من غير حقيقة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن إسحاق ، في قوله : { وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب } قال : ذكر لي أنهم نفر من بني غفار ، جاءوا فاعتذروا ، منهم خفاف بن إيماء ؛ وقيل لهم : رهط عامر بن الطفيل ، قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيئ على أهالينا ، ومواشينا .