البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَجَآءَ ٱلۡمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ لِيُؤۡذَنَ لَهُمۡ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (90)

{ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم } : ولما ذكر أحوال المنافقين الذين بالمدينة شرح أحوال المنافقين من الأعراب .

قرأ الجمهور : المعذرون بفتح العين وتشديد الذال ، فاحتمل وزنين : أحدهما : أن يكون فعل بتضعيف العين ومعناه : تكلف العذر ولا عذر له ، ويقال عذر في الأمر قصر فيه وتوانى ، وحقيقته أن يوهم أنّ له عذراً فيما يفعل ولا عذر له .

والثاني : أن يكون وزنه افتعل ، وأصله اعتذر كاختصم ، فأدغمت التاء في الذال .

ونقلت حركتها إلى العين ، فذهبت ألف الوصل .

ويؤيده قراءة سعيد بن جبير : المعتذرون بالتاء من اعتذر .

وممن ذهب إلى أن وزنه افتعل .

الأخفش ، والفراء ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم ، والزجاج ، وابن الأنباري .

وقرأ ابن عباس ، وزيد بن علي ، والضحاك ، والأعرج ، وأبو صالح ، وعيسى بن هلال ، ويعقوب ، والكسائي ، في رواية المعذرون من أعذر .

وقرأ مسلمة : المعذرون بتشديد العين والذال ، من تعذر بمعنى اعتذر .

قال أبو حاتم : أراد المتعذرين ، والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج ، وهي غلط منه أو عليه .

واختلف في هؤلاء المعذرين أهم مؤمنون أم كافرون ؟ فقال ابن عباس ومجاهد وجماعة : هو مؤمنون ، وأعذارهم صادقة .

وقال قتادة وفرقة : هم كافرون وأعذارهم كذب .

وكان ابن عباس يقول : رحم الله المعذرين ولعن المعذرين .

قيل : هم أسد وغطفان قالوا .

إن لنا عيالاً وأن بنا جهداً ، فأذن لهم في التخلف .

وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إنْ غزونا معك غارت إعراب طي على أهالينا ومواشينا ، فقال صلى الله عليه وسلم : «سيغني الله عنكم » وعن مجاهد : نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى .

قال ابن إسحاق : نفر من غفار منهم خفاف بن إيماء ، وهذا يقتضي أنهم مؤمنون ، والظاهر أن هؤلاء الجائين كانوا مؤمنين كما قال ابن عباس ، لأن التقسيم يقتضي ذلك .

ألا ترى إلى قوله : { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم } فلو كان الجميع كفاراً لم يكن لوصف الذين قعدوا بالكذب اختصاص ، وكان يكون التركيب سيصيبهم عذاب أليم .

ويحتمل أن يكونوا كفاراً كما قال قتادة ، فانقسموا إلى جاء معتذر وإلى قاعد ، واستؤنف إخبار بما يصيب الكافرين .

ويكون الضمير في منهم عائداً على الأعراب ، أو يكون المعنى : سيصيب الذين يوافون على الكفر من هؤلاء عذاب أليم في الدنيا بالقتل والسبي ، وفي الآخرة بالنار .

وقرأ الجمهور : كذبوا بالتخفيف أي : في إيمانهم فأظهروا ضد ما أخفوه .

وقرأ أبيّ والحسن في المشهور عنه : ونوح وإسماعيل كذبوا بالتشديد أي لم يصدقوه تعالى ولا رسوله ، وردوا عليه أمره والتشديد أبلغ في الذم .