تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{وَٱلضُّحَىٰ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الضحى

وهي مكية .

روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بَزةَ المقرئ قال : قرأت على عكرمة بن سليمان ، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عبَّاد ، فلما بلغت " وَالضُّحَى " قالا لي : كَبِّر حتى تختم مع خاتمة كل سورة ، فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك . وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك . وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك ، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك ، وأخبره أبي أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك{[1]} .

فهذه سُنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي ، من ولد القاسم بن أبي بزة ، وكان إمامًا في القراءات ، فأما في الحديث فقد ضَعَّفَه أبو حاتم الرازي وقال : لا أحدث عنه ، وكذلك أبو جعفر العقيلي قال : هو منكر الحديث . لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في شرح الشاطبية عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة ، فقال له : أحسنت وأصبت السنة . وهذا يقتضي صحة هذا الحديث .

ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته ، فقال بعضهم : يكبر من آخر " وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى " وقال آخرون : من آخر " وَالضُّحَى " وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول : الله أكبر ويقتصر ، ومنهم من يقول الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر .

وذكر الفراء في مناسبة التكبير من أول سورة " الضحى " : أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة [ ثم ]{[2]} جاءه الملك فأوحى إليه : " وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى " السورة بتمامها ، كبر فرحًا وسرورًا . ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف ، فالله أعلم{[3]} .

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس قال : سمعت جُنْدُبا يقول : اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتت امرأة فقالت : يا محمد ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك . فأنزل الله عز وجل : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }{[30173]} .

رواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، من طرق ، عن الأسود بن قيس ، عن جُنْدُب - هو ابن عبد الله البَجلي ثم العَلقي{[30174]} به{[30175]} وفي رواية سفيان بن عيينة عن الأسود بن قيس : سمع جندبًا قال : أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : وُدِّع محمد . فأنزل الله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }{[30176]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله{[30177]} الأودي قالا حدثنا أبو أسامة ، حدثني سفيان ، حدثني الأسود بن قيس ، أنه سمع جندبًا يقول : رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في أصبعه فقال :

هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت

قال : فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم ، فقالت له امرأة : ما أرى شيطانك إلا قد تركتك{[30178]} فنزلت : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } والسياق لأبي سعيد .

قيل : إن هذه المرأة هي : أم جميل امرأة أبي لهب ، وذكر أن إصبعه ، عليه السلام ، دميت . وقوله - هذا الكلام الذي اتفق أنه موزون - ثابت في الصحيحين{[30179]} ولكن الغريب هاهنا جعله سببًا لتركه القيام ، ونزول هذه السورة . فأما ما رواه ابن جرير :

حدثنا ابن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، عن عبد الله ابن شداد : أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أرى ربك إلا قد قلاك . فأنزل الله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }

وقال أيضا : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه قال : أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فجزع جزعًا شديدًا ، فقالت خديجة : إني أرى ربك قد قلاك مما نَرى من جزعك . قال : فنزلت : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } إلى آخرها{[30180]} .

فإنه حديث مرسل من [ هذين الوجهين ]{[30181]} ولعل ذكر خديجة ليس محفوظًا ، أو قالته على وجه التأسف والتحزن ، والله أعلم .

وقد ذكر بعض السلف - منهم ابن إسحاق - أن هذه السورة هي التي أوحاها جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين تبدى له في صورته التي خلقه الله عليها ، ودنا إليه وتدلى منهبطًا عليه وهو بالأبطح ، { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم : 10 ] . قال : قال له هذه السورة : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }

قال العوفي ، عن ابن عباس : لما نزلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، أبطأ عنه جبريل أياما ، فتغير بذلك ، فقال المشركون : ودعه ربه وقلاه . فأنزل الله : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }

وهذا قسم منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء ،


[1]:زيادة من أ.
[2]:ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (3/270).
[3]:في د: "وأديت".
[30173]:- (1) المسند (4/312).
[30174]:- (2) في أ: "العلقمي".
[30175]:- (3) صحيح البخاري برقم (1124، 1125، 4983، 4950، 4951) وصحيح مسلم برقم (1797) وسنن الترمذي برقم (3345) وسنن النسائي الكبرى برقم (11681) وسنن ابن ماجة برقم (3250).
[30176]:- (4) هذه الرواية في مسلم والترمذي.
[30177]:- (5) في أ: "وعمرو بن عبد الله بن عبد الله الأودي".
[30178]:- (6) في م: "قد تركك".
[30179]:- (7) صحيح البخاري برقم (2802) وصحيح مسلم برقم (1796).
[30180]:- (8) تفسير الطبري (30/148).
[30181]:- (1) زيادة من م، أ.