سورة التغابن مدنية وآياتها ثماني عشرة ، نزلت بعد سورة التحريم .
وقد افتتحت بالتسبيح كما افتتح قبلها عدد من السور المدنية ، حتى ظن بعض العلماء والمفسرين أنها مكية ، لأنها تعالج أصول العقيدة الإسلامية . وهذا ليس بصواب ، فما المانع أن تتناول السورة موضوع الإنسان المعترف بربه ، والإنسان الكافر الجاحد بآلاء الله ، وأن تضرب الأمثال بالقرون الخالية ، والأمم التي كذبت رسل الله ، وما حل بهم من العذاب والدمار نتيجة لكفرهم وضلالهم ! ثم بينت أن البعث حق لا بد منه ، سواء أقر به الجاحدون أم أنكروه : { زعم الذين كفروا أن لن يُبعثوا ، قل بلى وربي لتبعثنّ ثم لتنبّؤنّ بما عملتم ، وذلك على الله يسير } . ثم تؤكد أنهم سيردون إلى الله { يوم يجمعكم ليوم الجمع ، ذلك يوم التغابن } وبذلك سميت " سورة التغابن " . ويوم التغابن هو حيث يقع الغبن على الكافرين الذين فرطوا في الحياة الدنيا . وتتحد هذه السورة والتي قبلها في أمر الصبر .
فسورة " المنافقون " فيها صَبَر النبي صلى الله عليه وسلم على نفاق من حوله . . فليعتبر الناس وتكون ذكرى للعلماء أو الحكام أنهم إذا رأوا منافقين من إخوانهم وتلاميذهم ومن يخالطونهم فلا يثبّط ذلك هممهم عن العمل والجد في خدمة المجتمع .
وسورة التغابن هذه ذُكر فيها أن من الأزواج والأولاد أعداء ، فيكون المخلص من هذا كله لا يبتئس الإنسان مما يقاسي من الأصحاب وغيرهم ، بل عليه أن يصبر ، والله تعالى حضّ على الصبر في كثير من آيات القرآن الكريم ، وبغير صبر لا علم ولا عمل .
كذلك وطلبت السورة من الناس أن يطيعوا الله ورسوله ، فإن أعرضوا فإن الرسول ليس عليه إلا البلاغ . . وختمت السورة بحضّ المؤمنين على الإنفاق في سبيل الخير { ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون } ، { والله شكور حليم } ، { عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم } .
تقدم الكلام على معنى التسبيح ، وأن كل شيء في الوجود يسبح لله ، وله الحمد على جميع ما يخلق ويقدّر لأنه مصدرُ الخيرات ، ومفيض البركات .
{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
هذه الآيات [ الكريمات ] ، مشتملات على جملة كثيرة واسعة ، من أوصاف الباري العظيمة ، فذكر كمال ألوهيته تعالى ، وسعة غناه ، وافتقار جميع الخلائق إليه ، وتسبيح من في السماوات والأرض بحمد ربها ، وأن الملك كله لله ، فلا يخرج مخلوق عن ملكه ، والحمد كله له ، حمد على ما له من صفات الكمال ، وحمد على ما أوجده من الأشياء ، وحمد على ما شرعه من الأحكام ، وأسداه من النعم .
مدنية في قول الأكثرين . وقال الضحاك : مكية . وقال الكلبي : هي مكية ومدنية . وهي ثماني عشرة آية . وعن ابن عباس أن " سورة التغابن " نزلت بمكة ، إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي ، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده ، فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " [ التغابن : 14 ] إلى آخر السورة . وعن عبدالله بن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة " سورة التغابن " .
سورة التغابن{[1]}
مقصودها الإبلاغ في التحذير مما حذرت منه{[2]} المنافقون بإقامة الدليل القاطع على أنه لا بد من العرض على الملك للدينونة على النقير والقطمير يوم القيامة يوم الجمع الأعظم ، واسمها التغابن واضح الدلالة على ذلك [ و-{[3]} ] هو أدل ما فيها عليه فلذلك سميت{[4]} به ( بسم الله ) مالك الملك فلا كفوء له ولا مثيل ( الرحمن ) الذي وسع الخلائق بره الجليل ( الرحيم ) الذي خص ممن عمه بالبر قوما فوقهم للجميل .
لما ختمت تلك بإثبات القهر بنفوذ الأمر وإحاطة العلم ، افتتح هذه بإحاطة الحمد ودوام التنزه{[65641]} عن كل شائبة نقص ، إرشاداً إلى النظر في أفعاله والتفكر في مصنوعاته لأنه الطريق إلى معرفته ، وأما معرفته بكنه الحقيقة فمحال فإنه{[65642]} لا يعرف الشيء كذلك إلا مثله ولا مثل له ، فقال مؤكداً لما أفهمه{[65643]} أول الجمعة : { يسبح } أي يوقع التنزيه التام مع التجديد والاستمرار { لله } الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال { ما في السماوات } الذي من جملته الأراضي وما فيها فلا يريد من شيء {[65644]}منه شيئاً{[65645]} إلا كان على وفق الإرادة ، فكان لذلك{[65646]} الكون والكائن شاهداً له بالبراءة عن كل شائبة نقص .
ولما كان الخطاب مع من{[65647]} تقدم في آخر المنافقين ممن هو محتاج إلى التأكيد ، قال مؤكداً بإعادة الموصول : { وما في الأرض } أي كذلك بدلالتها على كماله واستغنائه ، وقد تقدم أن موافقة العاقل للأمر مثل موافقة غير العاقل للارادة ، فعليه أن يهذب نفسه غاية التهذيب فيكون في طاعته بامتثال الأوامر كطاعة غير العاقل {[65648]}في امتثاله{[65649]} لما يراد منه .
ولما ساق سبحانه ذلك الدليل النقلي على كمال نزاهته على وجه يفهم الدليل العقلي لمن له لب كما قال علي رضي الله عنه : لا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوع ، كما لا تنفع الشمس و{[65650]}ضوء العين ممنوع ، وذلك لكونه سبحانه جعلهم مظروفين كما هو المشاهد ، والمظروف محتاج لوجود ظرفه قبله فهو عاجز فهو مسبح دائماً إن لم يكن بلسان قاله كان بلسان حاله ، وصانعه الغني عن الظرف فغيره سبوح ، علل{[65651]} ذلك بقوله : { له } أي وحده { الملك } أي{[65652]} كله مطلقاً في الدنيا والآخرة ، وهو السيادة العامة للخاص والعام والسياسة العامة بركنيها{[65653]} دفع الشرور وجلب الخيور الجالب للسرور والحبور من الإبداع والإعدام ، فهو أبلغ مما في الجمعة ، فإن الملك قد يكون ملكاً في الصورة ، وذلك الملك الذي هو ظاهر فيه لغيره ، فداوم التسيبح الذي اقتضته عظمة الملك هنا أعظم من ذلك الدوام .
ولما أتبعه في الجمعة التنزيه عن النقص ، أتبعه هنا الوصف بالكمال فقال : { وله } أي وحده { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال كلها فلذلك ينزهه جميع مخلوقاته ، فمن فهم تسبيحها فذلك{[65654]} المحسن{[65655]} ، ومن كان في طبعه وفطرته الأولى بالفهم ثم ضيعه يوشك أن يرجع فيفهم ، ومن لم يهيأ لذلك فذلك الضال الذي لا حيلة فيه { وهو } أي وحده { على كل شيء } أيّ شيء أي ممكن أن يتعلق به المشيئة { قدير * } لأنه وحده بكل شيء مطلقاً عليم ، لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الأشياء كلها على حد سواء وهذا واضح جداً ، ولأن من عرف نفسه بالنقص عرف ربه{[65656]} بالكمال وقوة السلطان والجلال .
وقال الإمام{[65657]} أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى : لما بسط في السورتين قبل من حال من حمل التوراة من بني إسرائيل ثم لم يحملها ، وحال المنافقين المتظاهرين بالإسلام ، وقلوبهم كفرا وعناداً متكاثفة الإظلام ، وبين خروج الطائفتين عن سواء السبيل المستقيم ، وتنكبهم عن هدى الدين القويم ، وأوهم ذكر اتصافهم بمتحد أوصافهم خصوصهم{[65658]} في الكفر بوسم الانفراد وسماً ينبىء عن عظيم ذلك الإبعاد ، سوى ما تناول غيرهم من أحزاب الكفار ، فأنبأ تعالى عن{[65659]} أن الخلق بجملتهم وإن تشعبت الفرق وافترقت الطرق راجعون بحكم السوابق إلى طريقين{[65660]} فقال تعالى { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } [ التغابن : 2 ] وقد أوضحنا الدلائل أن المؤمنين على درجات ، وأهل{[65661]} الكفر ذو طبقات ، وأهل النفاق أدونهم حالاً وأسوأهم كفراً وضلالاً " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " وافتتحت السورة بالتنزيه لعظيم مرتكب المنافقين في جهلهم{[65662]} ولو لم تنطو{[65663]} سورة المنافقين من عظيم مرتكبهم إلا على ما حكاه تعالى من قولهم{ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها{[65664]} الأذل }[ المنافقين : 8 ] وقد أشار قوله تعالى{ يعلم ما في السماوات وما في الأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور }[ التغابن : 4 ] إلى ما قبله وبعده من الآيات إلى سوء جهل المنافقين وعظيم حرمانهم في قولهم بألسنتهم مما{[65665]} لم تنطو عليه قلوبهم{ والله يشهد أن المنافقين لكاذبون }[ المنافقين : 1 ] واتخاذهم أيمانهم جنة{[65666]} وصدهم عن سبيل{[65667]} الله إلى ما وصفهم سبحانه به ، فافتتح سبحانه وتعالى سورة التغابن بتنزيهه عما توهموه من مرتكباتهم التي لا تخفى عليه سبحانه{ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم }[ التوبة : 78 ] ثم قال تعالى :{ ويعلم ما تسرون وما تعلنون }[ التغابن : 4 ] فقرع ووبخ في عدة آيات ثم أشار إلى ما منعهم من تأمل الآيات ، وصدهم عن اعتبار المعجزات ، وأنه الكبر المهلك غيرهم ، فقال تعالى مخبراً عن سلفهم في هذا المرتكب ، ممن أعقبه ذلك أليم العذاب وسوء المنقلب{ ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا }[ التغابن : 6 ] ثم تناسج الكلام معرفاً بمآلهم الأخروي ومآل غيرهم إلى قوله{ وبئس المصير }[ التغابن : 10 ] ومناسبة ما بعد يتبين في التفسير بحول الله - انتهى .