{ لِيَعْلَمَ } بذلك { أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ } بما جعله لهم من الأسباب ، { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } أي : بما عندهم ، وما أسروه وأعلنوه ، { وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } وفي هذه السورة فوائد كثيرة : منها : وجود الجن ، وأنهم مكلفون مأمورون مكلفون منهيون ، مجازون بأعمالهم ، كما هو صريح في هذه السورة .
ومنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول إلى الجن ، كما هو رسول إلى الإنس{[1254]} ، فإن الله صرف نفر الجن ليستمعوا ما يوحى إليه ويبلغوا قومهم .
ومنها : ذكاء الجن ومعرفتهم بالحق ، وأن الذي ساقهم إلى الإيمان هو ما تحققوه من هداية القرآن ، وحسن أدبهم في خطابهم .
ومنها : اعتناء الله برسوله ، وحفظه لما جاء به ، فحين ابتدأت بشائر نبوته ، والسماء محروسة بالنجوم ، والشياطين قد هربت عن أماكنها ، وأزعجت عن مراصدها ، وأن الله رحم به الأرض وأهلها رحمة ما يقدر لها قدر ، وأراد بهم ربهم رشدا ، فأراد أن يظهر من دينه وشرعه ومعرفته في الأرض ، ما تبتهج به القلوب ، وتفرح به أولو الألباب ، وتظهر به شعائر الإسلام ، وينقمع به أهل الأوثان والأصنام .
ومنها : شدة حرص الجن لاستماع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتراكمهم عليه .
ومنها : أن هذه السورة قد اشتملت على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ، وبينت حالة الخلق ، وأن كل أحد منهم لا يستحق من العبادة مثقال ذرة ، لأن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ، إذا كان لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا ، بل ولا يملك لنفسه ، علم أن الخلق كلهم كذلك ، فمن الخطأ والغلط{[1255]} اتخاذ من هذا وصفه إلها [ آخر ] مع الله . ومنها : أن علوم الغيوب قد انفرد الله بعلمها ، فلا يعلمها أحد من الخلق ، إلا من ارتضاه الله وخصه{[1256]} بعلم شيء منها . تم تفسير سورة قل أوحي إلي ، ولله الحمد{[1257]}
{ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } في الفاعل بيعلم ثلاثة أقوال :
الأول : أي ليعلم الله أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم أي : يعلمه موجودا وقد كان علم ذلك قبل كونه .
الثاني : ليعلم محمد أن الملائكة الرصد أبلغوا رسالات ربهم .
الثالث : ليعلم من كفر أن الرسل قد بلغوا الرسالة والأول أظهر وجمع الضمير في أبلغوا وفي ربهم حملا على المعنى لأن من ارتضى من رسول يراد به جماعة .
{ وأحاط بما لديهم } أي : أحاط الله بما عند الرسل من العلوم والشرائع وهذه الجملة معطوفة على قوله : { ليعلم } لأن معناه أنه قد علم قال ذلك ابن عطية ويحتمل أن تكون هذه الجملة في موضع الحال .
{ وأحصى كل شيء عددا } هذا عموم في جميع الأشياء وعددا منصوب على الحال أو تمييزا أو مصدر من معنى أحصى .
ولما كان هذا الدأب من الحفظ في كل{[69320]} رسول بين الغاية جامعاً{[69321]} تعييناً لما اقتضاه الجنس ، وبياناً لأن الأفراد أولاً مراد به الجمع ، وأنه ما عبر به إلا لتشمل الحراسة كل فرد{[69322]} منهم فقال : { ليعلم } أي الله علماً كائناً واقعاً على هذه الصفة التي تعلق{[69323]} بها علمه{[69324]} في الأزل قبل وجودها بما لا يعلمه إلا هو سبحانه أنها ستكون { أن } أي إن الرسل عليهم الصلاة والسلام { قد أبلغوا } أي إلى من أرسلوا إليه { رسالات ربهم } أي الذي أوجدهم ودبر جميع أمورهم واختارهم لرسالاته{[69325]} على ما {[69326]}هي عليه{[69327]} لم يشبها شائبة ولا لحقها غبر . ولما كان هذا ربما أوهم أنه محتاج في الحفظ إلى الرصد{[69328]} أزال ذلك بقوله{[69329]} : { وأحاط } أي فعل ذلك والحال أنه قد أحاط { بما لديهم } أي الرسل والمرسل إليهم من الملائكة والبشر على أدق الوجوه وأعظمها وأغربها بما أشار إليه التعبير بلدى ، ولما كان هذا كافياً في المقصود ، لكنه قاصر على محل الحاجة عم تعريفاً بالأمر على ما هو عليه ، فقال حاملاً على شدة الوثوق بما تقوله الرسل عن ربهم وأنه لا لبس فيه ولا غائلة بوجه ، مبيناً غاية البيان كذب حديث الغرانيق الذي ذكره بعض المفسرين وغيرهم في سورة والنجم : { وأحصى } أي الله سبحانه وتعالى { كل شيء } أي على العموم من غير استثناء أصلاً { عدداً * } أي من جهة العدد لكل{[69330]} ما يمكن عده ولو على أقل مقادير{[69331]} الذر فيما لم يزل وفيما لا يزال ، فهو دليل قاطع على علمه تعالى بالجزئيات كعلمه بالكليات ، وقد التقى أول السورة وآخرها وباطنها الغيبي وظاهرها ، فدل آخرها على الأول المجمل ، وأولها على الآخر المفصل ، وذلك أن أول السورة بين عظمة الوحي بسبب الجن ، ثم بين في أثنائها حفظه من مسترقي السمع ، وختم بتأكيد حفظه و{[69332]}حفظ جميع{[69333]} كلماته واستمر في تأكيد أمره حتى بانت عظمة هذا القرآن ، وظهرت عزة هذا الفرقان ، على كل كتاب ، بكل اعتبار وحساب
وقد التقى أول السورة وآخرها وباطنها الغيبي وظاهرها ، فدل آخرها على الأول المجمل ، وأولها على الآخر المفصل ، وذلك أن أول السورة بين عظمة الوحي بسبب الجن ، ثم بين في أثنائها حفظه من مسترقي السمع ، وختم بتأكيد حفظه وحفظ جميع كلماته واستمر في تأكيد أمره حتى بانت عظمة هذا القرآن ، وظهرت عزة هذا الفرقان{[1]} ، على كل كتاب ، بكل اعتبار وحساب ، فافتتح المزمل بمثل ذلك وختمها بالأمر بقراءة ما تيسر منه ، وذكر في المدثر طعن الطاعن فيه وما ناله بسبب ذلك الطعن من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة مع ضمان الحفظ منه ، ثم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة القيامة عن العجلة في أمره لئلا يختل حفظه ، أو يزيغ أدنى زيغ لفظه ، و{[2]}تشريعاً لأمته في ترك الاستعجال ، فإنه ليس من دأب الرجال ، ثم أكد أمر تنزيله في الإنسان ، وبين أن علة الإعراض عنه حب العاجلة التي هي عين النقصان ، وختم المرسلات بنهاية ما تخيل الأوهام والظنون ، فقال
فبأي حديث بعده يؤمنون }[ الأعراف : 185 ] فسبحان{[3]} من نظمه هذا{[4]} النظام ، وجعله أقصى المراد وغاية المرام ، وصلى الله على من لا نبي بعده على الدوام{[5]} .